فروق: السودان خارج بيت الطاعة: بين الحصار والتفكيك

Friday, May 9, 2025

السودان خارج بيت الطاعة: بين الحصار والتفكيك

في خضم التحليلات المتكررة التي تفسر أزمة السودان بالصراعات القبلية، أو فشل النخب، أو تعقيدات الانتقال السياسي، يغيب عن السرد وجه آخر أكثر عمقًا وتأثيرًا: السودان كدولة اختارت في لحظة تاريخية مفصلية أن ترفض الهيمنة الأمريكية، وأن تسلك طريقًا مغايرًا للمنظومة الغربية، فكان العقاب ممنهجًا وطويل الأمد.. تسليط الضوء على كيف أصبح السودان ساحة لتجريب سياسات التفكيك، والحصار، والدفع نحو الانهيار، بعدما قرر أن لا يدخل بيت الطاعة، فدُفعت مؤسساته للتآكل من الداخل، وصُنعت مراكز قوى متصارعة، ثم أُطلقت شرارة الحرب الأهلية تحت شعارات التغيير والديمقراطية.

معالم بارزة في المسيرة (تلميحات سريعة):

  • رفض البشير للهيمنة الأمريكية: لم يكن قرارًا منفصلًا، بل امتدادًا لتوجه استراتيجي يعارض الوجود العسكري الأمريكي ويصطف مع معسكرات مضادة للنفوذ الغربي.
  • التداعيات الاقتصادية والتصنيف كداعم للإرهاب: جزء من أدوات الحصار الذكي، التي تبدأ بالتوصيف القانوني وتنتهي بالعزلة المالية.
  • انفصال الجنوب: تجلٍ خطير لتفتيت الدول التي ترفض الانصياع، تحت شعار تقرير المصير.
  • تدخلات ما بعد 2019: تعبير عن إدارة "الانتقال" من الخارج لا من الداخل، حيث تُستخدم أدوات الدعم الدولي لتوجيه التحول نحو مسارات تخدم مصالح محددة.
  • الإطاحة بالبشير: لم تكن نهاية النظام بل بداية مشروع إعادة الهيكلة بما يناسب القوى الكبرى.
  • دور حميدتي: ترجمة ميدانية لفكرة "القوى البديلة"، وهي استراتيجية مألوفة لإنتاج نفوذ غير مباشر في مناطق النزاع.
  • الوضع الحالي: النتيجة الطبيعية لتآكل السلطة المركزية، وتراكم التفكك السياسي والاجتماعي.

السودان بين مطرقة الرفض وسندان الفوضى: كيف يُعاقب من لا يدخل بيت الطاعة الأميركي؟

رفض الهيمنة: مشروع استقلال أم مغامرة مكلفة؟


منذ تسعينيات القرن الماضي، اتخذ السودان موقفًا مغايرًا لكثير من الدول العربية، رافضًا القواعد العسكرية الأمريكية، متحالفًا مع قوى مصنفة في خانة "أعداء واشنطن" كإيران، وحاضنًا لشخصيات مثل أسامة بن لادن. لم يكن ذلك مجرد توجه عقائدي، بل محاولة لإعادة صياغة موقع السودان الإقليمي من منطلق السيادة.

لكن هذا الطموح لم يُدعَم داخليًا بمشروع وطني قادر على الصمود:

  • لا بنية اقتصادية تقاوم الحصار.
  • لا وحدة وطنية متماسكة.
  • لا شرعية ديمقراطية بديلة تغني عن الاعتراف الدولي.


الحصار والعقاب: سياسة الخنق الممنهج

وضعت الولايات المتحدة السودان على قائمة "الدول الراعية للإرهاب" عام 1993، وأتبع ذلك بعقوبات شاملة شلّت الاقتصاد، ومنعت البلاد من الاستفادة من عائدات النفط والاستثمار الأجنبي. حتى بعد بدء تصدير النفط في أواخر التسعينيات، لم تُرفع القيود البنكية، وظلت البلاد معزولة ماليًا ودبلوماسيًا.

ترافق ذلك مع حملات إعلامية وسياسية تشوه صورة النظام وتُحضّر لمرحلة ما بعده. ولم يكن انفصال الجنوب عام 2011 إلا أحد تجليات تلك السياسة، حيث تمت صناعة كيان جديد مدعوم دوليًا، نُزع من السودان أكثر من 70% من موارده النفطية.
انفصال الجنوب: خسارة استراتيجية

انفصال الجنوب: خسارة استراتيجية

في 2011، وبموافقة دولية، انفصل الجنوب، ليفقد السودان معظم موارده النفطية. هذا الانفصال لم يكن فقط جغرافيًا بل ضرب العمق الاقتصادي والسياسي للدولة. كما خلق جبهات نزاع حدودية جديدة أضعفت أي مشروع استقرار.
كان ذلك جزءًا من استراتيجية تفتيت الدول الكبيرة التي تتحدّى هيمنة النظام الدولي، بتحويلها إلى كيانات أضعف وأسهل في الاحتواء.

الثورة والتحوّل: إسقاط البشير وتفكيك الدولة العميقة

الحراك الشعبي في 2018 و2019 جاء في لحظة انفجار شعبي حقيقي، لكن تم توظيفه بسرعة دوليًا. سقط البشير، وتشكّلت حكومة انتقالية برئاسة عبد الله حمدوك، التي دخلت منذ لحظاتها الأولى تحت ضغط هائل:
  • للتطبيع مع إسرائيل: مطلب غربي واضح كجزء من صفقة مقابل الانفتاح.
  • لتنفيذ شروط اقتصادية قاسية: تحت مظلة "الإصلاح"، مما أدى إلى موجة غلاء إضافية وغياب التأييد الشعبي.
  • لفقدان الشرعية الداخلية: بسبب غياب التوافق الوطني الحقيقي، وتضارب المصالح بين المكونين المدني والعسكري.


حميدتي وصناعة التوازنات البديلة

في ظل غياب المشروع الوطني الجامع، بدأت تظهر "القوى الموازية". محمد حمدان دقلو، قائد قوات الدعم السريع، ظهر كقوة مسلحة غير تابعة للجيش، لكنها مدعومة خارجيًا، ولها موارد مستقلة، ودور سياسي متزايد.
كان حميدتي مثالًا واضحًا لاستراتيجية إنشاء أدوات محلية لتحقيق أهداف خارجية، في مقابل وعود بالدعم والشرعية.كان الدعم الخارجي له واضحًا، خصوصًا مع مشاركته في الحرب اليمنية إلى جانب السعودية والإمارات، وتدفق الأموال عليه من قنوات غير خاضعة للمؤسسة العسكرية الرسمية.
وكان الدعم الخارجي له واضحًا، خصوصًا مع مشاركته في الحرب اليمنية إلى جانب السعودية والإمارات، وتدفق الأموال عليه من قنوات غير خاضعة للمؤسسة العسكرية الرسمية.

من دارفور إلى الخرطوم: الانفجار الكبير

الصراع بين الجيش والدعم السريع لم يكن إلا مسألة وقت. في 2023، انفجرت الحرب الأهلية في قلب العاصمة الخرطوم، وامتدت إلى أقاليم عدة. الحرب لم تكن مفاجئة، بل نتيجة مسار طويل من تفكيك الدولة المركزية، وخلق قوى موازية، وحرمان السودان من استقراره الداخلي بحجج الإصلاح أو دعم الانتقال الديمقراطي.

الرفض وحده لا يكفي

السودان ليس مجرد دولة شهدت صراعات داخلية، بل هو دولة تم معاقبتها لأنها رفضت الهيمنة الغربية. إن تبعات هذا الرفض كانت قاسية، حيث تسببت في عزلة دولية و انهيار اقتصادي، إضافة إلى تفكك داخلي وفوضى سياسية مستمرة. لكن اللافت أن السودان لم يُعاقب فقط بسبب سياسات البشير، بل بسبب اختياره المبدئي في التمرد على النظام العالمي، وهو أمر دفع ثمنه باهظًا.

اليوم، لا تزال البلاد تُعاني من نتائج هذه السياسات، ويبدو أن إعادة بناء السودان في إطار جديد يتطلب أكثر من مجرد اتفاقات سياسية مؤقتة أو تدخلات خارجية، بل حاجة إلى مشروع وطني حقيقي يعيد تعريف السيادة والاستقلالية، ويُعيد للسودان دوره الإقليمي والدولي الذي فقده على مدار العقود الماضية.

. . . في العمق يتجلى الفرق . . .