
كيف يمكن لأمة أن تصنع الروبوتات والقطارات الأسرع في العالم، وتعجز عن بناء علاقات إنسانية حقيقية داخل بيوتها؟ يتصدّر اليابانيون مؤشرات التقنية والانضباط، ويتصدّرون أيضًا مؤشرات الاكتئاب والانتحار والعزلة.
الآلة التي ابتلعت الإنسان
منذ لحظة النهوض بعد الحرب، أعادت اليابان تشكيل ذاتها عبر شعار واحد: لا وقت للبكاء على الأطلال. فانطلقت عجلة العمل بوتيرة لم يعرف لها التاريخ مثيلاً. التصنيع، الدقة، الإنتاجية، النظام، الالتزام.. صارت هذه المفردات هي القيم العليا. لكن في المقابل، تراجعت مفردات أخرى: الراحة، الحب، الأسرة، التأمل، الحياة.
تحوّل الإنسان الياباني إلى ترس صغير في ماكينة عملاقة. لا يهم من يكون، بل كم يُنتج. لا وقت للسؤال عن الغاية من الحياة، بل فقط عن موعد التسليم. فكانت النتيجة أن تماهى الفرد مع الآلة حتى فَقَد شعوره بذاته.
العمل.. أم العبودية؟
الوظيفة في اليابان ليست وسيلة لكسب العيش، بل هي هوية وجودية. يستحيل أن يسألك ياباني: "من أنت؟" دون أن يكون القصد: "ما مهنتك؟". لكن هذا الانصهار القاتل بين العمل والهوية أنتج مرضًا اجتماعيًا اسمه "كاروشي" – الموت نتيجة الإفراط في العمل.
وفي ظل ثقافة ترى في الإجازة تقصيرًا، وفي الاستقالة خيانة، وفي المرض ضعفًا، لم يعد أمام الموظف سوى الاستمرار حتى الانهيار.
أما النوم؟ فقد أصبح كثير من اليابانيين ينامون في القطارات، على الأرصفة، أو حتى وهم واقفون. ليس لأنهم لا يملكون منازل، بل لأنهم لا يملكون وقتًا، أو جسدًا قادرًا على الوصول إليها.
انتحار بلا دموع
حين يصبح النجاح عبئًا ثقيلًا، يتحول من نعمة إلى نقمة. اليابان، رغم رفاهها المادي، تشهد سنويًا آلاف حالات الانتحار، حتى بين المراهقين وطلاب المدارس. النُظم التعليمية الصارمة، وانعدام الحوار العاطفي في البيوت، وغياب الدفء الروحي، كلها أدت إلى تصدّع داخلي خفيّ لا يراه الإعلام.
الانتحار الصامت لم يعد حالة فردية، بل مؤشرًا جمعيًا على خلل عميق في بنية المجتمع: خلل في العلاقة بين الفرد وذاته، بين الإنسان وما يُنتظر منه أن يكونه.
عزلة في قلب الزحام
رغم المدن المزدحمة والقطارات المليئة، يعيش ملايين اليابانيين في عزلة خانقة. تُعرف هذه الظاهرة باسم "هيكيكوموري" – شباب ينسحبون من الحياة الاجتماعية بالكامل ويعزلون أنفسهم في غرفهم لأشهر وسنوات.
أما الزواج وتكوين الأسر؟ فقد أصبحا مشروعًا مؤجلًا أو مرفوضًا لدى كثيرين. لماذا؟ لأن الحياة صارت سباقًا لا يسمح بالتوقف، والأسرة باتت عبئًا في جدول أعمال محموم لا مكان فيه للعواطف.
نجاح بلا روح
صحيح أن اليابان صنعت أعظم ماكينات العالم، لكنها – في الطريق – حوّلت الإنسان نفسه إلى آلة. وما لم يُراجع هذا المجتمع علاقته بالقيم والغاية، فكل تقدمه التقني سيبقى هشًا، لأنه مبني على أنقاض النفس البشرية.
فالحضارة الحقيقية ليست في عدد الروبوتات، بل في أن يحيا الإنسان كإنسان، لا كمؤدٍ لوظائف متكررة بلا معنى.