حين تطأ قدم الزائر أرض الهند لأول مرة، غالبًا ما يُفاجأ بصدمات متتالية: العشوائيات الهائلة، الأطفال الحفاة في الشوارع، الفوارق الطبقية الحادة، وفوضى لا يمكن تصنيفها بسهولة ضمن خانة "التنوع".
هذا الانطباع الأولي ليس مجرّد مشهد عابر، بل هو مرآة تكشف التناقض العميق بين سردية "النمو الاقتصادي الكبير" وواقع الفقر البنيوي المتجذر في أعماق المجتمع الهندي.
الطبقية المستمرة رغم الديمقراطية
رغم أن الهند تُقدّم نفسها كأكبر ديمقراطية في العالم، إلا أن النظام الطبقي القديم، المرتبط بالديانة الهندوسية (نظام "الجات" و"الطبقات")، ما زال يتحكم في تفاصيل الحياة اليومية، وإن تغيّر شكله من القهر الصريح إلى الفصل الاجتماعي المقنّع. فالفروق بين من يُولد في "الطبقة العليا" ومن يُولد منبوذًا لا تُمحى بسهولة عبر سياسات الرفاه أو شعارات التعددية.
الفقر كبنية وليس كحالة طارئة
الفقر في الهند ليس مجرّد ظاهرة عابرة أو نتاج أزمة اقتصادية آنية، بل هو بنية متجذّرة تعود إلى قرون من الإقصاء الاجتماعي والاستغلال الاستعماري. وحتى بعد الاستقلال، لم تنجح سياسات الدولة في إحداث توزيع عادل للثروات. بل إن بعض السياسات، خصوصًا في عصر العولمة النيوليبرالية، عزّزت من تركّز الثروة في أيدي فئة محددة من كبار الرأسماليين، بينما تُرك ملايين البشر في قاع السلم الاجتماعي.
دعاية "النمو الاقتصادي": سردية النخبة
رغم كل ما سبق، لا تكاد تخلو نشرات الأخبار والتقارير الاقتصادية من الإشادة بـ"المعجزة الهندية" و"التقدم التكنولوجي" و"الاقتصاد الأسرع نموًا". وهذه السردية ليست خاطئة تمامًا، لكنها مبنية على متوسطات رقمية تخفي التفاوت الصارخ: فالهند أنتجت شركات كبرى في التقنية، وأرسلت أقمارًا صناعية للفضاء، وصدّرت الأدوية، لكنها في الوقت نفسه تحتل مراتب متأخرة جدًا في مؤشرات التنمية البشرية، والتغذية، والصحة، والتعليم.
من يخاطب الإعلام؟ ومن يراه؟
الإعلام الهندي والعالمي يصوّر الهند الصاعدة كقوة اقتصادية وديمقراطية واعدة، لكنه في الغالب يخاطب فئة محددة: المستثمرين، صانعي القرار، والنخب العالمية. أما المواطن الهندي العادي، الذي يعيش في القرى أو أطراف المدن الكبرى، فلا يرى من هذا "النمو" سوى ارتفاع الأسعار، وتراجع الخدمات العامة، واحتكار الفرص من قبل أبناء النخب.
الانطباع الأولي: حدس يتجاوز الصور
لذلك، فإن الزائر الذي يشعر أن "شيئًا ما ليس على ما يُرام" لا يخطئ. فالفقر ليس مجرد مشهد بل رسالة صامتة تقول إن القصة التي تُروى عن الهند من الخارج ليست كاملة. وأن خلف واجهات ناطحات السحاب الجديدة في "بنغالور" أو "مومباي"، هناك ملايين يعيشون دون مراحيض، ودون تعليم، ودون أمل.
ما بين التقدّم والانفصال الداخلي
الهند اليوم تمثل مثالًا صارخًا على ما يمكن تسميته بـ"النمو المنفصل عن العدالة". فأن تكبر الدولة في مؤشرات الناتج المحلي لا يعني بالضرورة أن شعبها يعيش أفضل. وهذه الحقيقة، وإن تم تجاهلها إعلاميًا، تفرض نفسها بقوة أمام كل زائر يمتلك عينًا ترى ما وراء السرديات الرسمية، وقلبًا لا ينسى الكرامة البشرية.