
أولًا: الجهل المركّب كأداة طيّعة في يد المُضلِّل
الجهل ليس فقط غياب المعلومة، بل – في صورته الأخطر – هو الاطمئنان إلى معلومة زائفة مع اليقين التام بأنها الحقيقة. وهذا ما يُعرف بالجهل المركّب. في هذا المستوى، لا يحتاج المُضلّل إلى قمع المجتمع، بل يكفيه أن يُغذيه بمفاهيم مقلوبة: أن الشك في الرواية الرسمية خيانة، وأن التساؤل حول السلطة الدينية تطاول، وأن مقاومة الظلم فتنة.
بذلك يصبح الجهل حليفًا نشطًا للتضليل، ويؤدي دوره بتفانٍ دون أن يطلب أجرًا، بل يذود عن الزيف ويُحارب من يحاول تصحيحه.
ثانيًا: الإعلام... سلاح الهدم الناعم
حين يُسخّر الإعلام لتفكيك القيم، فإنه لا يُعلن الحرب على الأخلاق، بل يُعيد تعريفها. يتم تصوير التفاهة على أنها تحرر، والتملق على أنه ذكاء اجتماعي، والخضوع بأنه استقرار سياسي. تُسلَّط الأضواء على نماذج سطحية ويُقدَّم أصحاب المبادئ على أنهم متشددون أو متأخرون.
في هذه البيئة، يُعاد تشكيل الذوق العام، وتُهدم الرموز التاريخية، ويُنسى السياق، ويُعاد ترسيم الخريطة الذهنية للناس، لتتماهى مع ما يخدم السلطة أو السوق أو الهيمنة الثقافية.
ثالثًا: هدم الرواسخ يبدأ من تمييع المفاهيم
يبدأ تفكيك المجتمعات من نقطة واحدة: تذويب المعاني. فحين لا يعود مفهوم "الحرية" واضحًا، يمكن تسويقه كتحلل. وحين يُشوَّه معنى "الرجولة"، تُختزل في عنف أجوف. وعندما يُفكك معنى "الدين"، يصبح مجرد طقوس فولكلورية منفصلة عن العدالة.
هذا التمييع المتعمد يفتح الباب لإعادة غرس قيم مستوردة أو مشوهة، وكأنها بدائل طبيعية للرواسخ التي تم نسفها. وهكذا يصبح "الجهل الحديث" مُغلَّفًا بخطاب معاصر، لكنه لا يقلّ تدميرًا عن الجهل الأولي.
رابعًا: من التجهيل إلى الترويض
ليس المطلوب أن يبقى الناس جُهّالًا بالضرورة، بل أن يُعلَّموا ما يخدم الجهات المتنفذة فقط. تُنتقى المعارف، وتُقدَّم في قوالب مريحة، وتُقصى المفاهيم التي تحرّض على الوعي أو المقاومة. يُعاد تشكيل العقل الجمعي ليكون مطواعًا، يُبهره الشكل ويغفل عن الجوهر.
إنها مرحلة الترويض الناعم، حيث يُمنح الجمهور هامشًا من الحرية الشكلية، كي يُصدّق أنه حر، بينما هو يُعاد توجيهه نحو الفراغ، أو نحو قيم استهلاكية، أو نحو فخر زائف بالانتماء، دون وعي حقيقي بمآلات الواقع.
خامسًا: مسؤولية المفكر أمام مشهد التضليل المُمنهج
في ظل هذا الطوفان من التزييف، لا يكون دور المثقف الحقيقي مجرد ناقد من مقعد مرتفع، بل يصبح أقرب إلى المقاتل الرمزي، الذي يسترد المعنى من بين أنقاض التلاعب اللغوي والإعلامي. إن كشف آليات التضليل لا يكفي، بل يجب أن يُرفق بإعادة بناء المفاهيم، وترسيخ الوعي النقدي، وتدريب الجمهور على مهارات التمييز والقراءة العميقة.
فالجهل لا يُهزم بالكمّ المعرفي وحده، بل بالقدرة على تحليل ما وراء الخطاب، وفضح ما يُراد تمريره من خلاله.
خاتمة:
استغلال الجهل لا يكون مجرد انحراف أخلاقي، بل هو مشروع سلطوي متكامل، يهدف إلى تفكيك المجتمع من داخله، وتحييده عن قضاياه الكبرى. وإن مقاومة هذا المشروع تبدأ بإحياء الوعي، وتحرير المفاهيم من التزييف، ومساءلة الخطاب لا ترديده. ففي عالم يُعاد فيه إنتاج الجهل بأدوات المعرفة، لا بد من ثورة فكرية تكشف الزيف وتعيد بناء المعنى.
كلمات مفتاحية: