
تتكرّر في عصرنا ظواهر فكرية غريبة تعيد إلى السطح قضايا tưởng أنها حُسمت منذ قرون، كما في حالة "نظرية الأرض المسطحة". فما الذي يدفع بعض الناس إلى التشكيك في أبجديات العلم الحديث؟ وهل هو مجرّد جهل أم أن وراءه خطابًا موجهًا؟
في ظل تصاعد الشك في المؤسسات وانهيار الثقة في النخب، يصبح العقل البشري أكثر استعدادًا لتبنّي السرديات المضادة، حتى ولو بدت عبثية.
لكن السؤال الأهم ليس: هل الأرض مسطحة؟ بل: من أعاد هذه الفرضية إلى التداول؟ ولماذا؟ ومن المستفيد من نشر هذا النوع من الارتباك المعرفي؟
أولًا: لماذا عادت فرضية "الأرض المسطحة" إلى السطح؟
رغم أن كروية الأرض مسألة محسومة علميًا منذ قرون، فإن فرضية "الأرض المسطحة" عادت إلى التداول في العقدين الأخيرين، خاصة مع صعود وسائل التواصل الاجتماعي والمنصات البديلة. ويمكن حصر أسباب ذلك في:
-
تصاعد الشك في المؤسسات
كثيرون لم يعودوا يثقون في الخطاب الرسمي للمؤسسات العلمية والإعلامية والحكومية، ويرون أن العلم يُستخدم أحيانًا كأداة هيمنة. هذا ما فتح الباب أمام نظريات المؤامرة التي تدّعي كشف "الحقيقة الممنوعة". -
التحرر من السلطة المعرفية
إعادة طرح مثل هذه الفرضيات تُعطي شعورًا زائفًا بالاستقلال الفكري، وكأن من يعتنقها يتحرر من "غسيل الأدمغة" الذي تمارسه النخب. هي تمرد على السلطة الرمزية للعلم. -
استغلال فراغات الوعي العلمي
الكثيرون يجهلون الأسس العلمية الحقيقية لكروية الأرض، ولم يسبق لهم اختبارها بأنفسهم. هذا الجهل يتم استغلاله ببراعة من قبل أصحاب الأجندات المضادة.
ثانيًا: من يعيد الترويج لهذه الفرضية؟
الترويج لهذه السردية لا يأتي من طرف واحد، بل من خليط مركّب يشمل:
-
صنّاع المحتوى المهووسين بالإثارة
بعض اليوتيوبرز ومنتجي المحتوى يدركون أن طرح مثل هذه الأفكار سيجذب الجدل والمشاهدات، فيحقق لهم شهرة وربحًا بغض النظر عن المضمون. -
جهات تسعى لتشويه العقل النقدي
من منظور نظري، من الممكن أن تكون هناك جهات تستثمر في نشر هذا النوع من الأفكار العبثية لتفريغ الرغبة في التمرد من مضمونها الحقيقي، فتجعل النقد موجهًا للعلم نفسه بدلًا من توجيهه للأنظمة الظالمة. -
جهات استخباراتية أو قوى تضليلية
نشر الجهل المُمنهج جزء من هندسة الوعي الجماهيري، فكلما كان العقل الجمعي مشوشًا وفاقدًا للبوصلة، كان أسهل للسيطرة عليه.
ثالثًا: من هو المستهدف؟
المستهدف الأساسي هو:
- الطبقة الشعبية الواسعة التي تبحث عن بدائل معرفية دون أدوات نقد علمي راسخ.
- الشباب المتمرد الذي يشعر بالخذلان من المؤسسات، فيكون مستعدًا لتبني أي فكرة "معاكسة".
- المجتمعات الهشة علميًا وتعليميًا التي لم تتلقّ تعليمًا يؤهلها للتمييز بين العلم والزيف.
رابعًا: ما الغرض الحقيقي؟
الغرض ليس إثبات أن الأرض مسطحة فعلًا، بل:
-
إرباك المفاهيم العلمية وزرع الشك فيها
حين يصبح الشك في "كروية الأرض" مقبولًا، يصبح من السهل التشكيك في أي حقيقة علمية. -
تشويه صورة التفكير النقدي
عبر تحويله إلى "نقض عبثي لكل شيء"، بدلًا من أن يكون أداة لفهم الواقع وتغييره. -
إضعاف الثقة في أدوات العقل الجماعي
كالعلم والتعليم والتجربة، مما يجعل الناس أكثر قابلية للخضوع للخرافة والدجل. -
إلهاء العقول عن الأسئلة الكبرى
بدلًا من التساؤل حول القهر السياسي أو النهب الاقتصادي، يُشغل العقل في التساؤل حول شكل الأرض.
خلاصة تحليلية
إعادة طرح فرضية "الأرض المسطحة" ليست مسألة علمية، بل ظاهرة معرفية-سياسية، تُستخدم كأداة لإرباك الوعي الجمعي، وتفريغ طاقة التمرد في قضايا عبثية. إنها أحد تمظهرات ما بعد الحقيقة، حيث تُستبدل المعرفة بالانفعال، ويصبح السؤال: "من يربح حين نضيع في العبث؟"