
منطق الخضوع: "نفذ أولاً.. فكر لاحقًا (إذا سُمح لك)"
في أغلب بيئات العمل التقليدية، لا تُمارَس السلطة كأداة لتيسير الأمور، بل تُفرض كما لو أنها قدر لا يُناقش. الرئيس يأمر، والمرؤوس ينفذ، والنظام يدعوك أن تخرس وتنفّذ، لا أن تفكر أو تسأل. إنها بيئة تحكمها قاعدة غير مكتوبة: "مكانك في السلم الوظيفي يساوي قيمة صوتك: صفر". الكفاءة تُستبدل بالطاعة، والاحترام يُطلب لا يُكتسب. والنتيجة؟ موظفون يتعلمون كيف يتجنبون العقاب لا كيف يصنعون النجاح.
ثقافة "الرئيس دائمًا على حق".. حتى حين يكون أحمقًا
الرئيس في هذا النظام يُمنح سلطة إلهية. قراراته لا تُراجع، كلمته لا تُناقش، وأخطاؤه تُلمّع على حساب من تحته. وعندما تقع الكوارث، تُحمَّل المسؤولية على الموظف الأدنى، لأنه "لم يفهم التوجيهات". لا يهم إن كانت التوجيهات غامضة أو متخبطة أو متخلفة، المهم أنك لم "تجيد تنفيذها"، لأن الرئيس معصوم، والخطأ خطيئة لا تُغفر للضعفاء فقط.
السلطة كتعويض نفسي: قادة عاجزون يمارسون القمع لتأكيد وجودهم
ليست كل سلطوية نابعة من قوة، بل كثير منها يُغلف انعدام الأمان بثوب الصرامة. بعض المديرين يمارس سلطته ليس لأنه يملك رؤية أو قدرة، بل لأنه ضعيف بلاها. يحتاج إلى أن يُسكت من تحته ليشعر أنه موجود. يأخذ القرارات لا لمصلحة العمل، بل ليُظهر أنه "يتحكم". ويُمارس العقوبة لا لفرض الانضباط، بل ليُشبع رغبة دفينة في السيطرة. القيادة تتحول إلى استعراض صغير للرجولة الزائفة.
هرم ضغط مقلوب: الكل يجلد من تحته
هذه المنظومة لا تقف عند القمة، بل تتسرب إلى كل مستوى إداري. كل فرد يضطهد من تحته كما اضطُهد ممن فوقه. المدير يقسو على مشرف القسم، والأخير يفرغ سمّه على الموظف، والموظف يُحبط المتدرب، والمتدرب يلعن الساعة التي وُلد فيها. إنها منظومة تُعيد إنتاج الإذلال كما لو كان سلوكًا وظيفيًا طبيعيًا. وكل من نجا من العقوبة، يمارسها لاحقًا على غيره حين تسنح له الفرصة، وكأن القمع انتقام مُسلسل أكثر من كونه إدارة.
القانون أداة ظلم: مغطاة بعبارة "حسب النظام"
في هذه المنظومة، لا يستخدم القانون لتنظيم العمل، بل لتبرير الإهانة. تُستدعى اللوائح حين يريد المسؤول سحق أحدهم، وتُنسى حين يتعلق الأمر بحمايته أو محاسبته. "الأنظمة واضحة"، يقولها المدير حين يُجبرك على ساعات إضافية بلا مقابل، أو حين يُنزل عقوبة تعسفية، أو يسرق فكرتك ويضع اسمه عليها. النظام هنا ليس مرجعًا للعدالة، بل سلاحًا بيد الأقوى.
الموظف المثالي: أخرس، خائف، منفذ خاضع
في هذه البيئة، لا يُكافأ المبدع، بل المطيع. لا يُصعد من يقترح، بل من يصفق. المدير لا يحب من يفتح عينيه كثيرًا، بل من يطأطئ رأسه ويتقن فن الابتلاع. "فكر بصمت، نفذ بسرعة، وابتسم رغم الغصّة"، هذه هي مواصفات الموظف المثالي. والمحصلة؟ مؤسسات بائسة، إنتاجية متدهورة، وعلاقات عمل مبنية على الخوف والرياء.
بيئة تُنتج كادرا مقهورًا عاجزًا
هذا النموذج لا يُحبط الموظفين فقط، بل يُشوههم. يزرع فيهم الخوف من المبادرة، والريبة من المسؤولية، والعجز عن النقد. ومع الوقت، يُصبحون جزءًا من هذه المنظومة القمعية، يتنفسون الصمت، ويستسيغون المذلة، ويفقدون القدرة على التغيير حتى خارج العمل. إنهم يُربّون على الطاعة كما يُربى العبد، لا العامل. وفي النهاية، لا تُنتج المؤسسة موظفين، بل تُنتج مواطنين مخصيين اجتماعيًا، لا يرفعون صوتًا أمام سلطة، أكانت مدنية أم سياسية.
الرداءة كنظام ثابت لا يُزعج أحدًا
في مثل هذا الجو، لا غريب أن تتراجع الكفاءات، وتُهمّش العقول، وتُكافأ الرداءة بالصعود. المدير يحب من لا ينافسه، ويخاف من الذكي، ويُحيط نفسه بمن يمدحونه لا بمن يختلفون معه. الرديء لا يُزعجه الرديء، لذا يسود. والمبدع يُطرد أو يهرب أو يُحبط حتى يُكسر. وهكذا تستمر الدائرة، ولا يتغير شيء، سوى وجوه المقموعين.
. . . في العمق يتجلى الفرق . . .
