فروق: الحيونة: حين يتخلّى الإنسان عن ذاته استمتاعا

Saturday, May 10, 2025

الحيونة: حين يتخلّى الإنسان عن ذاته استمتاعا

في عالم يزداد فيه الضجيج الداخلي وتتصاعد فيه الحيرة حول الهوية والمعنى، ظهرت سلوكيات تعكس انزياحًا خطيرًا في مفهوم الإنسان عن نفسه. من بين هذه الظواهر ما يُعرف بـ "الحيونة" — وهي حالة يتقمّص فيها الإنسان حياة الحيوان شكلًا وسلوكًا، ويُسقط عن نفسه صفات العقل والكرامة، مختارًا أن يعيش كائنًا تابعًا، يأكل على الأرض، يُقاد من سيد، ويخضع لأنماط معيشية لا تمت للإنسان بصلة.. هذه الظاهرة، التي قد يراها البعض شذوذًا أو عبثًا، تُعبّر في جوهرها عن أزمة في فهم الذات، وانفصال عن الطبيعة البشرية.


حين يتهاوى البناء السلوكي

السلوك البشري يقوم على ثلاثة أعمدة: الوعي، الاختيار، والكرامة. أما الحيونة، فهي تهدم هذه الأعمدة واحدًا تلو الآخر:

  • الوعي: كما قال الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر في كتابه الوجود والعدم (1943)، إن الإنسان هو الكائن الذي يُعرّف نفسه من خلال الوعي والاختيار، أي أن الإنسان ليس مجرد كائن موجود، بل كائن يتحقق ويشكل ذاته باستمرار. في الحيونة، يُجمد العقل، ويُستبدل بالغرائز، فيتخلّى الإنسان عن أداة تميّزه.
  • الاختيار: يذهب فريدريك نيتشه في فلسفته إلى أن الإنسان الذي يتخلى عن الاختيار هو إنسان لا يعيش في "إرادة القوة"، بل في حالة انصياع فطري. الحيونة تقوم على هذا المبدأ، حيث يتحوّل الاختيار إلى طاعة، والخضوع إلى لذة، ويتلاشى الشعور بالمسؤولية.
  • الكرامة: في كتابه نقد العقل المحض (1781)، وصف إيمانويل كانط الكرامة الإنسانية بأنها تعتمد على القدرة على اتخاذ قرارات عقلية مستقلة. الحيونة تسقط هذه الكرامة، لتأخذ الإنسان إلى حالة من الانسحاق أمام "السيد" أو "القائد".


البحث عن سيد: الحاجة إلى من يضبط الفوضى

غالبًا ما ترتبط الحيونة بعلاقة خضوع مطلق لمن يُسمى "السيد"، وكأن الإنسان قد ضاق ذرعًا بحريته، فراح يبحث عمّن يُعيد تنظيم فوضاه الداخلية. في هذا السياق، السيد لا يُمثل سلطة أخلاقية أو عقلانية، بل مجرد كائن أقوى، يقود الحيوان البشري كما يشاء.

هذه العلاقة غير المتكافئة تكشف عن خلل في الحاجة للتوجيه والانضباط، لكنها تتخذ مسارًا منحرفًا، لأن الانضباط هنا لا ينبع من احترام أو قيمة، بل من الرغبة في الإلغاء الذاتي، كأن الطاعة أصبحت غاية، وليست وسيلة لنمو الشخصية.

كمثال واقعي، قد نلاحظ في بعض مجتمعات الإنترنت أو ثقافة الـFurries (مجتمع مُحبي الشخصيات الحيوانية البشرية) كيف تتجسد هذه العلاقة بين "السيد" و"الحيوان"، حيث يتقمص البعض شخصيات حيوانية ويخضعون لتوجيهات شخص آخر في إطار من الطاعة المطلقة.


من الفلسفة إلى الانحدار

الفلاسفة الكبار، من سقراط إلى نيتشه، نظروا إلى الإنسان ككائن يبحث عن المعنى، يتجاوز الحيوان بالوعي، ويصنع أخلاقه عبر التأمل والصراع الداخلي. لكن الحيونة، في مظهرها الحديث، تسير عكس هذا الاتجاه:

  • لا معنى، بل استسلام.
  • لا صراع، بل انصهار في الغرائز.
  • لا تجاوز، بل تراجع إلى رتبة أدنى.

سارتر، في كتابه الوجود والعدم، قدّم الإنسان ككائن يتحدد من خلال أفعاله وأرادته الحرة. الحيونة ليست مجرد فقدان للأفعال الحرة، بل هي تخلي عن الإنسان كيانه ككائن مستقل.

هي ليست تجربة وجودية كما قد يدّعي البعض، بل نوع من الهروب من الوجود نفسه، والانسحاب من مشقة الكينونة إلى بساطة الحيوانية.


الإعلام وثقافة التهوين: حين تصبح الحيونة محتوىً قابلاً للمشاركة

في عصر تُعاد فيه صياغة كل شيء بلغة الترفيه، لم تعد الحيونة سلوكًا هامشيًا يُرفض تلقائيًا، بل أصبحت مادة للعرض، والمشاركة، والتطبيع الثقافي. منصات التواصل الاجتماعي، وبعض الأعمال الفنية، بل وحتى بعض البرامج الوثائقية، قدّمت هذه الظاهرة تحت عناوين مثل "الاختلاف"، "التحرر"، أو "اكتشاف الذات"، متجاهلة الأسئلة الجوهرية حول كرامة الإنسان وحدود حريته.

بهذا، لم يعد الانحدار يُرى كأزمة، بل كحق، ولم يعد التحوّل إلى الحيوان يُقابل بالاستفهام، بل بالتصفيق. الإعلام المعاصر، بتجرده من المعايير الأخلاقية، لعب دورًا حاسمًا في تبييض الحيونة وتقديمها كخيار وجودي مشروع، لا كعرض لأزمة داخلية بحاجة إلى مواجهة وعلاج.

والخطر هنا لا يكمن في السلوك الفردي فحسب، بل في صناعة ثقافة تُفرغ الإنسان من عمقه، وتحوله إلى "محتوى" قابل للعرض، دون وعي بعواقب هذا التبسيط القاتل.


هل الحيونة حرية؟

قد يرفع البعض شعارات الحرية الشخصية لتبرير الحيونة، لكننا أمام حرية تنقلب على ذاتها. فالحرية لا تُقاس بقدرة الإنسان على تقليد الحيوان، بل بقدرته على أن يبقى إنسانًا رغم كل ما يُغريه بالسقوط.

الحيونة ليست ظاهرة غريبة فحسب، بل مرآة لانحدار داخلي أعمق — انحدار يبدأ من فقدان المعنى، ويمر بأزمة هوية، وينتهي بتشويه كامل لصورة الإنسان التي صاغها العقل والتاريخ والأخلاق.


. . . في العمق يتجلى الفرق . . .