فروق: حين يُجمَّل الطغيان بخوفٍ من القادم: منطق فرعون يتكرر

Saturday, May 10, 2025

حين يُجمَّل الطغيان بخوفٍ من القادم: منطق فرعون يتكرر

حين تتمكن قوة ما، تبدأ ملامح الطغيان في الظهور، مغطّاة بالشعارات ومبرّرة بالمخاوف. ومع بروز طاغية جديد في الأفق، يُستدعى شبح التهديد لتخفيف قباحة الواقع القائم. يُعاد تدوير فزّاعة فرعون: "إنه يفسد دينكم"، لإقناع الناس بأن القادم أخطر، وأن المستبد الذي يعرفونه أهون الشرّين. وهكذا يُستخدم الخوف من المجهول غطاءً لطغيان معلوم. لكن الطغيان لا يُقارن ليُقبل، بل يُدان من حيث هو.


قراءة في سلوك القوى العظمى بين الماضي والمستقبل

حين تتربع قوة ما على قمة النظام الدولي، يتكرر نمط تاريخي مألوف: طغيان مقنّع تحت شعارات التحرير، أو تدخل سافر بدعوى الأمن والاستقرار. من الولايات المتحدة إلى الاتحاد السوفييتي، رأينا كيف أن التمكّن من مفاصل القوة الاقتصادية والعسكرية والسياسية غالبًا ما يُغري أصحابها بالتوسع، ويحوّلهم إلى مهندسي العالم وفق مصالحهم الخاصة. إلا أن ما يلفت النظر مؤخرًا هو الخطاب المتزايد الذي يحذّر من "الطغيان القادم" مع صعود الصين، لا سيما حين يُستعمل هذا التهديد كأداة لتجميل طغيان مضى، أو للتقليل من فداحة الهيمنة الغربية.


طغيانٌ بصيغة القوة الناعمة والخشنة

الولايات المتحدة، باعتبارها القوة العظمى المهيمنة بعد الحرب الباردة، مارست سياسات خارجية اتسمت بثنائية التناقض: الترويج للديمقراطية وحقوق الإنسان من جهة، والتدخلات العسكرية والانقلابات من جهة أخرى. تدخلها في العراق، دعمها لأنظمة قمعية، حصارات اقتصادية، وتوظيفها للمؤسسات الدولية كأدوات ضغط... كلها تشكّل نماذج واضحة لطغيان ناعم في ظاهره، خشن في نتائجه.

الاتحاد السوفييتي لم يكن أقل شراسة، بل فرض أيديولوجيته بالقوة على دول شرق أوروبا، ومارس قمعًا داخليًا وتحكمًا مطلقًا في الإعلام والاقتصاد والمجتمع. كل من القوتين أسهم في خلق عالم لا يُدار بالتعددية، بل بالقطبية والهيمنة، ولو تحت رايات مختلفة.


الصين.. "التهديد القادم" أم فزّاعة الحاضر؟

مع تسارع صعود الصين الاقتصادي والتكنولوجي، بدأت تلوح تحذيرات مكثفة من أنها ستكون أكثر طغيانًا من أمريكا. يُستشهد بقمع الحريات داخليًا، مركزية النظام السياسي، وطموحاتها التوسعية في بحر الصين الجنوبي. لكن هذه المخاوف، على وجاهتها في بعض السياقات، كثيرًا ما تُوظف كأداة خطابية لتهوين ما فعله الآخرون. يُقال إن الصين ستكون طاغية المستقبل حتى يُقال –ضمنيًا– إن أمريكا "أهون الشرّين"، وبالتالي تُغفر تدخلاتها السابقة ويُعاد توصيفها كأخطاء تكتيكية في سياق دفاع مشروع عن "العالم الحر".


حين يُسمّى التهديد "إفسادًا للدين": فزّاعة فرعون تتكرّر

في قلب السردية الفرعونية القديمة، نجد نموذجًا كلاسيكيًا لاستعمال الخطر القادم ذريعةً لتبرير الاستبداد القائم. فرعون، رمز الطغيان المطلق، لم يكتفِ بالبطش، بل ألبس طغيانه ثوب الحماية. فعندما واجه خطرًا على سلطته بظهور موسى عليه السلام، لم يُعلِن أن مشكلته مع منازعته في الحكم، بل قال لشعبه: "إني أخاف أن يبدل دينكم" — أي أن خطر موسى لم يُقدَّم كخطر سياسي، بل كتهديد للهُوية والعقيدة، ليرسّخ بذلك صورة الزعيم الحامي للدين، ولتبرير القمع بوصفه دفاعًا مقدسًا.

هذه اللافتة لا تزال تتكرر، حين يُشيطَن أي منافس، أو قوة صاعدة، وتُصوَّر على أنها خطر على "قيمنا"، أو "نمط حياتنا"، أو حتى "الإيمان" ذاته، كما تفعل بعض الأصوات الغربية في الحديث عن الصين أو غيرها. فبدل أن يُناقش السلوك السياسي للقوى الكبرى بميزان العدالة، يُراد للناس أن يختاروا بين "الطاغية الذي نعرفه" و"الشيطان الذي لا نعرفه"، تمامًا كما فعل فرعون حين شوّه صورة موسى، ليظل هو المستبد المقبول.


الانعزال التاريخي لا يُنذر بالطغيان العالمي

الصين تاريخيًا لم تكن دولة استعمارية على النمط الأوروبي. سياساتها اتسمت بالانعزال والاقتصاد الداخلي، ولم تُعرف بتدخلات عسكرية عبر القارات. طبعًا، لا يمكن الجزم بأن سلوكها المستقبلي سيكون مسالمًا بالكامل، لكن لا يصح الحكم المسبق عليها وفق مقاييس دولٍ استباحت العالم فعليًا. ما يُخشى منه بحق، هو أن يجبرها منطق الصراع الدولي على تكرار سيناريوهات الطغيان بحجة الردع والدفاع عن المصالح.


تبرير الطغيان عبر فزاعة المستقبل

أخطر ما في خطاب "الطغيان القادم" أنه يُستخدم كستار أخلاقي لتبرير الطغيان القائم أو الذي مضى. فيُقال: نعم، تدخلت أمريكا، لكنها على الأقل لا تفعل مثلما ستفعل الصين. هذا المنطق يُغلق باب المحاسبة، ويصادر حق الضحايا في تقييم ما جرى بحقهم، كما يُكرّس فكرة أن الهيمنة شر لا بد منه، على أن يُختار صاحبها بعناية!


الطغيان لا يُقارن .. بل يُدان

المعيار الحقيقي للحكم على القوى العظمى ليس في نواياها المعلنة، ولا في مقارنة طغيانها بطغيان آخر. الطغيان، حين يتمكّن، يتحول إلى نظام حكم للعالم، يُصادر سيادة الدول، ويُخضع الشعوب لخدمة مراكز القوة. والمطلوب ليس انتظار "الأسوأ" لتبرير "السيئ"، بل بناء وعي عالمي يرفض كل طغيان، سواء حمل راية الديمقراطية أو شعار الحزب الواحد. فالقوة بلا قيم، لا تصنع استقرارًا، بل تنتج دوامة جديدة من الهيمنة والمقاومة.


. . . في العمق يتجلى الفرق . . .