فروق: القرد والبرسيم: اعادة تشكيل الإنسان بالغريزة

Saturday, May 10, 2025

القرد والبرسيم: اعادة تشكيل الإنسان بالغريزة

في زمن تُختزل فيه العلاقة بين السلطة والشعب إلى معادلة العلف والولاء، تفقد السياسة معناها، ويتحول الإنسان إلى مجرد مستقبل سلبي لعطايا هزيلة تُقدَّم له لا كحق، بل كمنّة. الحكومات العاجزة لا تحتاج مواطنًا واعيًا، بل مستهلكًا ممتنًّا، يشغل وقته بالركض خلف الفتات، ويكتم أسئلته مقابل علبة طعام أو وعد بمكرُمة موسمية. هنا، لا تعود الدولة مشروعًا مدنيًا، بل حظيرة يُروّض فيها العقل، وتُطحن فيها الكرامة. إنها لحظة يصبح فيها القرد رمزًا لا لحيوان، بل لإنسان أُفرغ من فكره، ووُجّهت رغباته ليعيش على البرسيم، لا على الحلم.


السياسة بالغريزة: ترويض لا تمكين

حين تُبنى العلاقة بين المواطن والدولة على الحاجات البدائية وحدها—الخبز، الأمن، الترفيه الرخيص—فأنت لا تحكم شعبًا، بل تسيّر قطيعًا. تُوزع المعونات، تُرفع الرواتب جزئيًا، تُعلن المنح الطارئة، ويُخدَّر وعي الناس بما يسد الرمق لا ما يفتح الأفق. وحين تتكرّس هذه الحالة، يصبح الإنسان أداة في يد السلطة: ساكنًا ما دام البرسيم حاضرًا، وناقمًا إن انقطع، لا لأنه فقد حقوقه، بل لأنه اعتاد العلف.


صناعة القرد: من المسؤول؟

ليس الفرد وحده مسؤولًا عن تحوّله إلى "قرد" يُصفّق لمن يُطعمه، ويغضب ممن يوقظه. الدولة التي تُقصي العقل، تُفرغ التعليم، وتُسطّح الإعلام، وتستبدل الثقافة بالدعاية، هي التي تصنع هذا النموذج. يتم تهميش الفكر، ويُمنح الجاهل منبرًا، ويُرفع الغوغاء فوق المتخصصين. بهذا، يُعاد تشكيل وعي الإنسان ليصبح طوعًا في يد من يُغدق عليه البرسيم، ويخاف أن يخسره أكثر مما يخاف على حريته وكرامته.


البرسيم أداة سلطة: كلما خفّ العقل، زاد العلف

السلطة التي تخشى التفكير، تفضل الجائع على الواعي. لأن الجائع يمكن إسكاته بوجبة، أما الواعي فلا يرضى بأقل من عدالة. البرسيم، مهما تنوعت أشكاله—دعم مالي، خدمات مؤقتة، ترفيه غريزي، أو حتى بطاقات شكر شعبوية—ليس سوى وسيلة لضبط الإيقاع، وترويض المجتمع، وتفريغ السياسة من معناها الحقيقي: المشاركة والمساءلة والكرامة.


من القرد إلى المواطن: لحظة الوعي المرّة

لكن التاريخ يُثبت أن البرسيم لا يُسكت الأسئلة إلى الأبد. يأتي يوم يتساءل فيه القرد: لماذا أعيش على الفتات بينما تُهدر الثروات؟ لماذا أُكافأ على الصمت وأُعاقب على السؤال؟ لماذا أُربَّى على الطاعة لا على التفكير؟ هذه الأسئلة هي بداية تحوّله إلى مواطن، أي إلى كائن حرّ يُطالب لا يتوسل، يُفكّر لا يُصفّق. وتلك اللحظة هي ما تخشاه الأنظمة التي بَنَت أمنها على جوع الناس وجهلهم.

البرسيم لا يُبني دولة. والقرد لا يُقيم مجتمعًا. الدولة التي تُراهن على الغريزة ستأكل نفسها حين ينضب العلف أو يُكسر القيد. وحده الوعي يُقيم الأوطان، والحرية لا تُمنَح لمن اعتاد أن يُكافأ على انحناء ظهره. في النهاية، لا يُقاس نجاح الأنظمة بعدد المرات التي أطعمت فيها شعوبها، بل بعدد المرات التي سمحت لهم أن يفكروا، ويختلفوا، ويقرروا كيف يعيشون.


. . . في العمق يتجلى الفرق . . .