اليابان: لماذا استسلمت بعد القنبلة الذرية؟

يُقال إن القنبلة الذرية أنهت الحرب العالمية الثانية وأجبرت اليابان على الاستسلام. وتُقدَّم هذه الرواية كدليل على مدى الرعب الذي تسببه القوة المطلقة، حتى لأمة اشتهرت بانتحارييها الكاميكاز ورفضها التام للخضوع. لكن حين نغوص في تفاصيل اللحظة، نجد أن القنبلة لم تكن وحدها في ميدان الضغط. بل إن ما دفع القيادة اليابانية إلى قرار الاستسلام لم يكن الانفجار، بل من كان ينتظر خلف الستار. فهل كانت الذرّة مجرد ستار دخان لقرار سياسي أعمق؟

حين تُخفي القنابل الذرية الحقيقة السياسية

رُسّخ في الوعي الجمعي العالمي أن اليابان استسلمت في الحرب العالمية الثانية بسبب القنبلة الذرية. وأن الدمار المهول الذي ألحقته القنبلتان بهيروشيما وناغازاكي كان كافيًا لتحطيم الروح القتالية لأمةٍ عُرفت بالكاميكاز، أولئك الطيارين الانتحاريين الذين كانوا يرتمون طوعًا في حضن الموت من أجل الإمبراطور.

لكنّ هذه الرواية، رغم شعبيتها، تخفي وراءها سردية مضادة أكثر دقة وأشد وقعًا في ميزان الإستراتيجية والسيادة. فاليابان التي استبسلت حتى اللحظة الأخيرة لم تُهزم بالقنبلة، بل بشيء آخر، أكثر هدوءًا... وأكثر تهديدًا لوجودها السياسي.

ثقافة الموت لا تعني غياب الحسابات

عند النظر من الخارج، تبدو اليابان وكأنها آلة انتحارية لا عقل لها: جنود يرفضون الاستسلام، طيارون يفجّرون أنفسهم، ضباط ينتحرون طواعية بعد كل هزيمة. لكن هذه الصورة، رغم واقعيتها في الميدان، لا تنسحب على من كان في الأعلى. فالنخبة السياسية والعسكرية اليابانية، وعلى رأسها الإمبراطور هيروهيتو، لم تكن لتغامر بإبادة كاملة لشعبها دون حساب.

كان هناك عقل بارد يعمل في الظل، يراقب الموازين الدولية، ويقيس الاحتمالات، ويبحث عن أقل الخسائر الممكنة في عالم ما بعد الهزيمة. القنبلة النووية كانت مرعبة بلا شك، لكنها في ميزان العقل الاستراتيجي لم تكن وحدها السبب.

دخول الاتحاد السوفيتي: الزلزال الحقيقي

في صباح 8 أغسطس 1945، أي بعد يوم واحد من قصف هيروشيما، أعلن الاتحاد السوفيتي الحرب على اليابان. وفي اليوم نفسه، بدأ الجيش الأحمر غزو "منشوريا" التي كانت تحت الاحتلال الياباني. ولم يكن هذا مجرد إعلان رمزي، بل عملية عسكرية كاسحة، تهدد باجتياح اليابان من الشمال.

وهنا تغيّرت قواعد اللعبة.

كانت اليابان تأمل في وساطة السوفييت مع الحلفاء، لحفظ ما تبقى من ماء الوجه الإمبراطوري. لكن بإعلان الحرب، انقلب الحليف المحايد إلى خصم وجودي. والقيادة اليابانية، التي تعرف تمامًا ماذا فعل السوفييت بألمانيا الشرقية، كانت تدرك أن الاحتلال الشيوعي لا يترك مجالًا لنصف هزيمة.

الخيار بين موتَين: ذريّ أم شيوعي؟

الولايات المتحدة، رغم وحشية القنبلة، لم تكن تسعى لإزالة النظام الإمبراطوري بالكامل. بل على العكس، كانت تُلمّح إلى إمكانية الإبقاء على الإمبراطور، ولو بشكل رمزي، في نظام ما بعد الحرب. أما السوفييت، فكانوا سيقتلعون كل ما يمتّ إلى النظام القديم بصلة، ويحوّلون اليابان إلى نسخة شيوعية جديدة على غرار ما فعلوه لاحقًا في كوريا الشمالية.

وهنا كان القرار.

القيادة اليابانية اختارت الاستسلام للأمريكيين، لأنهم في النهاية يعرضون موتًا محسوبًا، لا موتًا وجوديًا. القنبلة كانت مروعة، نعم، لكنها وفّرت غطاءً نفسيًا للإمبراطور كي يُعلن الاستسلام دون أن يُتّهم بالخيانة. أما الخوف الحقيقي، فكان من الزحف الأحمر، لا من اللهب الأصفر.

التفاف استراتيجي لا انكسار نفسي

ما حدث لم يكن انهيارًا نفسانيًا بقدر ما كان انحناءة سياسية ذكية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه. فاليابان، رغم الاستسلام، حافظت على وحدة أراضيها، ونظامها الإمبراطوري، واستعادت نهوضها في عقود لاحقة بطريقة لم تحدث لأي دولة مهزومة أخرى في الحرب. لقد اختاروا الباب الأقل ألمًا، لا لأنهم انهاروا، بل لأنهم قرأوا الخريطة جيدًا.

الخلاصة

الدرس الحقيقي من استسلام اليابان ليس في قوة القنبلة، بل في لعبة التهديد المتعدد. حين تحاصر أمة بين موتين، فإن العقل هو من يختار شكل الهزيمة. واستسلام اليابان لم يكن لحظة انهيار، بل لحظة قرار سيادي جريء، تفادى الأسوأ باسم الأسوأ الآخر.

أحدث أقدم
🏠