أوكرانيا: بين المطرقة الروسية والسندان الأمريكي

هل تخوض حربها أم تُساق إليها؟.. في قلب أوروبا الشرقية، تدور حرب دامية بين روسيا وأوكرانيا منذ سنوات، وتبدو كما لو أنها صراع بين دولتين مستقلتين. لكنّ القراءة السطحية تخفي واقعًا أعمق: فالحرب ليست فقط بين جيشين، بل بين مشروعين دوليين يتصارعان على أوكرانيا، بينما الشعب الأوكراني هو الوقود.

ما الذي يدفع أمريكا إلى الإصرار على استمرار الحرب؟ ولماذا تصر روسيا على المضي فيها رغم الخسائر؟ ولماذا تقبل أوكرانيا أن تكون ساحة صراع بين قوتين عظيمتين؟ ثم، السؤال الأعمق: هل يفضّل الشعب الأوكراني الاحتلال الأمريكي الناعم على الاحتلال الروسي المباشر؟ وهل كان له من خيار آخر؟

أولًا: لماذا تصر أمريكا على الحرب في أوكرانيا؟

إصرار أمريكا على دعم أوكرانيا لا ينبع فقط من منطلقات أخلاقية أو دفاعية، بل من حسابات استراتيجية دقيقة، أبرزها:

  1. احتواء روسيا ومنع بروزها كقوة منافسة : منذ انهيار الاتحاد السوفيتي، تسعى واشنطن لمنع روسيا من استعادة نفوذها. والحرب فرصة لإضعاف موسكو عسكريًا واقتصاديًا من دون مواجهة مباشرة.
  2. تثبيت زعامة أمريكا للنظام العالمي : بتصوير نفسها كمدافع عن الديمقراطية، تعزز أمريكا موقعها كقوة تقرر مصير الشعوب، وتحدد العدو والصديق.
  3. إعادة تفعيل حلف الناتو وتوسيع نفوذه : الحرب أعادت إحياء الحلف العسكري الغربي، وأعادت أوروبا إلى مظلة الحماية الأمريكية، بعد أن كانت تميل نحو الاستقلال النسبي.
  4. استنزاف روسيا عبر حرب بالوكالة : بتمويل وتسليح أوكرانيا، تضمن أمريكا أن تستنزف روسيا دون أن تخسر جنديًا أمريكيًا واحدًا.
  5. إرسال رسائل ردع إلى الصين : الموقف من روسيا هو رسالة غير مباشرة للصين: تغيير الحدود بالقوة سيقابل بردّ قاسٍ، سواء في أوكرانيا أو مستقبلاً في تايوان.
  6. أرباح صناعات السلاح والطاقة : الحرب مكّنت شركات السلاح الأمريكية من التوسع، كما فتحت سوق الغاز الأوروبي أمام أمريكا بعد إقصاء روسيا.

ثانيًا: لماذا تصر روسيا على خوض الحرب؟

رغم الكلفة الباهظة، تعتبر موسكو أن هذه الحرب وجودية، لا يمكن التراجع عنها:

  1. الدفاع عن المجال الحيوي : انضمام أوكرانيا إلى الناتو يهدد أمن روسيا المباشر، ويكسر طوقها الاستراتيجي التاريخي.
  2. حماية النفوذ السوفيتي السابق : أوكرانيا تمثل بوابة روسيا إلى أوروبا، وخسارتها تعني نهاية أي مشروع روسي لاستعادة مجدها الجيوسياسي.
  3. الحفاظ على الهيبة الدولية : بوتين يعتبر أن التراجع في أوكرانيا يعني الإهانة الدولية، وانهيار صورة روسيا كقوة عظمى.
  4. فرض وقائع جديدة على النظام العالمي : روسيا تحاول من خلال الحرب فرض معادلة جديدة تفرض بها الاعتراف بها كندّ للغرب، لا كتابع له.

ثالثًا: لماذا تصر أوكرانيا، وهي الخاسر الأكبر؟

على الرغم من الدمار والتهجير، لا تتراجع القيادة الأوكرانية، لأسباب معقدة:

  1. خيار المقاومة أو الذوبان : ترى أوكرانيا أن التراجع يعني فقدان السيادة، وربما تحويلها إلى دولة تابعة للكرملين.
  2. الدعم الغربي الضخم : المساعدات العسكرية والسياسية والمالية جعلت أوكرانيا تشعر بأن النصر ممكن، ولو كان باهظ الثمن.
  3. الخطاب القومي والتعبئة الإعلامية : العداء لروسيا تحوّل إلى جزء من الهوية الجديدة، ما يجعل أي دعوة للتفاوض تُرى كخيانة وطنية.
  4. السعي لهوية منفصلة عن روسيا : الحرب تُستغل لصياغة هوية أوكرانية "غربية" خالصة، تتنكر لماضيها المشترك مع الروس، لصالح اندماج ثقافي في المشروع الأطلسي.

رابعًا: هل يفضّل الشعب الأوكراني الاحتلال الأمريكي على الروسي؟

هنا ندخل منطقة حرجة من الحقيقة:

  1. نظرة عامة: أمريكا منقذ وروسيا محتل : الغالبية في غرب أوكرانيا ترى في أمريكا شريكًا وحليفًا، لا محتلاً، بينما تُصور روسيا كغاصب يريد محو الدولة الأوكرانية.
  2. في شرق أوكرانيا: رؤية معكوسة : الكثيرون في الشرق يرون في الروس أقرباء ثقافيًا، ويعتبرون الغرب قوة غريبة تفرض عليهم نمطًا ثقافيًا لا يشبههم.
  3. الاحتلال الأمريكي ناعم وغير مباشر : لا تأتي أمريكا بالدبابات، بل بالدعم والمنظمات والبرامج والدينار المشروط. لذلك لا يراه معظم الأوكران كاحتلال، رغم أنه في العمق تبعية كاملة.
  4. الشعوب المقهورة تختار أخف الضررين : حين يكون الخيار بين الاحتلال الروسي الدموي، والاحتلال الأمريكي الناعم، تختار الشعوب الأخير، ليس حبًا فيه، بل لأن البديل أكثر فظاعة.

خامسًا: هل كان يمكن تجنب الحرب؟

نعم، لو كانت أوكرانيا دولة حرة بحق.

كان بإمكان أوكرانيا أن تلعب دور الدولة المحايدة، كما فعلت فنلندا سابقًا: لا تنضم للناتو ولا تنحاز للكرملين، بل تحفظ سيادتها بالتوازن.
لكن المشروع الغربي لم يقبل ذلك. فإما أن تكون أوكرانيا أداة له، أو فريسة لعدوه.

سادسًا: حتى لو انتصرت أوكرانيا… هل تربح فعلاً؟

- الانتصار العسكري لا يعني السيادة

ستبقى أوكرانيا خاضعة لقرارات الغرب ومشاريعه، ولن تُبنى سياستها إلا بما يخدم واشنطن وبروكسل.

- روسيا لن ترحل

حتى لو انسحبت عسكريًا، ستبقى على الحدود، بانتظار لحظة جديدة للتدخل، إن لم يكن عسكريًا فاقتصاديًا أو سياسيًا.

- لا أمن دائم لدولة بلا استقلال قرار

طالما أن أوكرانيا تدور في فلك قوة أجنبية، فلن تعرف السلام، لأن سيادتها ستكون مرهونة بالمصالح لا بالمبادئ.

خلاصة تحليلية

أوكرانيا لا تخوض حربها، بل حُشرت في حرب أكبر منها.
الشعب الأوكراني قُسم بالقوة: قسم اختار الغرب لأنه يرى فيه حماية من العدو الروسي، وقسم ما زال يرى في الروس إخوة التاريخ واللغة.
لكن الحقيقة الأليمة أن الطرفين — الأمريكي والروسي — لا يقاتلان من أجل أوكرانيا، بل على ظهرها.
فإذا انتصرت أوكرانيا، ستكون دولة وظيفية تابعة. وإذا انهزمت، ستكون دولة مكسورة مقسّمة. وفي كلتا الحالتين، الخاسر الأكبر هو الشعب، الذي حُرم من الخيار الثالث: الحياد والسيادة.

أحدث أقدم
🏠