الخليج كواجهة حداثة.. ماذا خلف البريق؟

رغم أن دول الخليج العربي تُمثّل اليوم إحدى أبرز واجهات "الحداثة" في العالم العربي، فإن هذا البريق الساطع يخفي وراءه طبقات كثيفة من التناقضات والاختلالات البنيوية. أبراج شاهقة، مدن ذكية، متاحف عالمية، وفعاليات ثقافية ورياضية تجوبها الأضواء والكاميرات... لكن هل هذه المظاهر تعكس بالضرورة مشروعًا حضاريًا حقيقيًا؟ أم أنها تمثل نمطًا من "التمثيل الحداثي" الذي يُراد له أن يُبهر، لا أن يُفكّر؟

في هذا المقال، نحاول كشف ما وراء الصورة، وتفكيك آليات صناعة "الحداثة الخليجية" بوصفها سردية إعلامية، قبل أن تكون مشروعًا تنمويًا متماسكًا.

الحداثة كاستيراد لا كتحوّل

إن أحد أخطر ملامح الحداثة في الخليج هو كونها حداثة مُستوردة جاهزة، لا نتاجًا لتحوّل اجتماعي وثقافي داخلي. فالمباني المذهلة والتقنيات المتقدمة جاءت غالبًا عبر صفقات وتعاقدات مع شركات أجنبية، بينما ظل الإنسان الخليجي – في أغلب الحالات – خارج معادلة الإنتاج الفكري والعلمي الذي يُفترض أن يصاحب أي مشروع حداثي حقيقي. الحداثة هنا ليست "سيرورة" تطور، بل "سلعة" تُعرض في الواجهة.

الاقتصاد النفطي وتمويه العجز البنيوي

الوفرة المالية الناتجة عن النفط أتاحت استيراد كل شيء تقريبًا: من المعمار إلى التعليم إلى الترفيه. غير أن هذه الوفرة تخفي عجزًا بنيويًا في بنية الاقتصاد، القائم على التصدير الريعي والاستهلاك المكثف. فغالبية المشاريع الحديثة لا تولّد اقتصادًا معرفيًا مستقلًا، بل تُعيد إنتاج التبعية للأسواق الغربية عبر الوكالات، الامتيازات، ونُظم العمل المؤقتة. هذا النمط من التنمية يُكرّس الضعف بدلًا من تجاوزه.

التنوير المؤطَّر: حرية تحت الرقابة

تتبنّى بعض العواصم الخليجية شعار "الانفتاح الثقافي"، وتُقيم المهرجانات، وتُرحب بالفنانين والمفكرين من كل العالم. لكن هذا التنوير المعلَن مشروط ومؤطر. فالفكر النقدي، متى ما لامس الخطوط السياسية الحمراء أو المسائل الحقوقية الحساسة، يُقصى أو يُهمَّش. والحرية، هنا، تتحول إلى واجهة ديكورية تروّج للانفتاح، دون أن تؤسس فعلًا لفضاء نقدي حر يساهم في بناء وعي جمعي مستقل.

هوية بلا مرجعية

مع توسع سردية "الحداثة البراقة"، يتعرض النسيج الثقافي والروحي لتآكل تدريجي. الهوية التي كانت تستند إلى تاريخ، ودين، وتقاليد محلية، أصبحت تتنازعها رؤى عولمية نمطية لا تنبع من عمق المجتمع، بل تُغرس فيه غرسًا. تُستبدل العمامة بالقبعة، والمجلس بالتطبيق، والمجتمع بالفرد المَعزول الذي يُستهلك أكثر مما يُنتج.

الإعلام وتجميل الصورة

تلعب المنصات الإعلامية الخليجية دورًا محوريًا في تلميع هذا النموذج. فهي لا تُنتج سردية فكرية نقدية، بل تُكرّس خطاب الحداثة الاستعراضية، وتُخفي التفاوتات الاجتماعية، والتضييق على الحريات، والتغيرات الجذرية في النسيج الأسري والمجتمعي. الصورة أهم من المضمون، والحدث أهم من السياق.

ما الذي يُراد تصديره؟ ومن هو الجمهور؟

ليس من قبيل الصدفة أن تُضخ الاستثمارات الضخمة في السينما، والمهرجانات، والألعاب الرياضية العالمية. فهذه الواجهة تُوجَّه للداخل كما تُوجَّه للخارج، بهدف إعادة تشكيل الوعي الجمعي، وإيهام المتلقي العربي والعالمي بأن الحداثة تتحقق، وأن "النموذج الخليجي" هو الأفضل والأقدر على التكيّف مع عالم اليوم. إنه مشروع للتمثيل لا للتغيير.

خاتمة: خلف الواجهة.. مشروع أم تمويه؟

إن النموذج الحداثي الخليجي يظل مُعلّقًا بين صورتين: صورة السطح اللامع الذي يُبهر العالم، وصورة العمق الصامت الذي لا يُسأل عنه. وحين نضع هذا النموذج تحت عدسة النقد، لا ننكر إنجازاته المادية، لكننا نشكك في ادعائه بأنه يُمثّل مشروعًا حضاريًا مستقلًا. فالتنمية الحقيقية ليست في الأبراج ولا المتاحف، بل في الإنسان الحر، المفكر، المنتج، صاحب الهوية، والمشارك في صناعة مصيره.

أحدث أقدم
🏠