
لذا، يمكن تقديم الإجابة في إطار مقال تحليلي كما يلي:
هل كانت الدولة العثمانية إمبراطورية قمع أم حصنًا مقاومًا؟
قراءة تحليلية نقدية لتاريخ الإمبراطورية العثمانية خارج ثنائية التمجيد والتجريم
تتوزع السرديات حول الدولة العثمانية بين تيارين رئيسيين: أحدهما ينظر إليها كرمز لوحدة الأمة الإسلامية ومقاومة الاستعمار، والآخر يصوّرها كقوة قمعية مارست التتريك والاستبداد وعرقلت نهوض العرب. لكن بين هذين القطبين، تغيب قراءة ثالثة تفكك البنية المعقدة للإمبراطورية بوصفها كيانًا تاريخيًا تحكمه تناقضات الواقع وتحوّلات المصالح.
إمبراطورية متعددة القوميات والوظائف
الدولة العثمانية لم تكن مجرد "دولة إسلامية"، بل كانت إمبراطورية مترامية الأطراف، حكمت شعوبًا وقوميات متعددة، وكان من الطبيعي أن تتخذ في بعض المراحل طابعًا إداريًا مركزيًا صارمًا. في المقابل، كانت تركيبة الدولة تعتمد أيضًا على مبدأ "الملل"، الذي سمح للأقليات الدينية بإدارة شؤونها الذاتية، وهي صيغة حكم لا تخلو من مرونة مقارنة بأنظمة قمعية صريحة كالإمبراطورية الصفوية أو القيصرية.
القمع كوظيفة سلطوية لا خصوصية عثمانية
إذا وُجد القمع في الدولة العثمانية، فهو لم يكن سلوكًا عثمانيًا خاصًا، بل وظيفة بنيوية في أي سلطة إمبراطورية تسعى لضبط الأطراف والسيطرة على التنوع. ما يُسمّى "قمع العرب" لم يكن سياسة عنصرية ممنهجة كما يصورها بعض القوميين، بل امتد القمع إلى الأتراك أنفسهم في فترات الانقلابات والقهر السلطاني. والسؤال الأهم هنا: هل كانت الدول البديلة في تلك المرحلة ستخلو من القمع لو نشأت تحت الاحتلال الأوروبي مباشرة؟
مقاومة الاستعمار الأوروبي: حسابات واقعية أم مواقف مبدئية؟
تميّزت الدولة العثمانية بأنها كانت الحصن السياسي الأكبر الذي وقف عسكريًا أمام التمدد الأوروبي لمئات السنين، بدءًا من معركة فيينا وحتى الحرب العالمية الأولى. صحيح أن دوافع المقاومة لم تكن دائمًا "تحريرية" بالمعنى الأيديولوجي، لكنها شكلت حائلًا موضوعيًا أمام الاحتلال المباشر للمنطقة. وهذا ما جعل القوى الاستعمارية تعمل على تفكيكها من الداخل، عبر إثارة القوميات والدعوة إلى "التحرر العربي"، الذي تبيّن لاحقًا أنه مجرد انتقال من وصاية عثمانية إلى هيمنة غربية.
العرب في الدولة العثمانية: شركاء أم ضحايا؟
رغم التصورات السائدة، كان العرب يشغلون مناصب عليا في الدولة العثمانية، وكان منهم وزراء وقضاة وولاة، بل إن بعض الحملات العسكرية التي قادها العثمانيون في البلقان وشمال أفريقيا كانت بمشاركة وحدات عربية. التهميش لم يكن عامًا ولا دائمًا، بل خاضعًا لتقلبات السياسة، كما هو حال أي كيان سياسي متعدد الأعراق.
من يصنع الذاكرة؟ الإعلام القومي أم الحقائق التاريخية؟
الخطاب الإعلامي في القرن العشرين، سواء القومي العربي أو الغربي، ساهم في إعادة رسم صورة الدولة العثمانية على نحو يخدم أهدافه: الغرب يصوّرها كـ"رجل مريض" يمثل بقايا العصور المظلمة، والقوميون العرب يرون فيها استعمارًا غير أوروبي. لكن ما تم تجاهله هو أن البديل عن تلك الدولة لم يكن نهضة قومية ولا استقلالًا حقيقيًا، بل سايكس بيكو وخرائط الانتداب والاحتلال المباشر.
الدولة العثمانية بين النموذج والانهيار
لا يمكن إنكار أن الدولة العثمانية عانت من فساد إداري وانحدار فكري في مراحلها الأخيرة، لكن هذا الانهيار لا يلغي دورها في حماية الجغرافيا الإسلامية من الغزو الاستعماري، ولا ينفي قدرتها على إدارة تنوع ضخم لعقود طويلة. كما أن سقوطها لم يؤدِ إلى تحرر الشعوب، بل إلى شرذمتها وتفكيكها ضمن أنظمة وظيفية ترعاها القوى المنتصرة.
الخلاصة: منطق التاريخ لا يُقاس بالمثالية
لم تكن الدولة العثمانية مدينة فاضلة ولا إمبراطورية قمع مطلق، بل كانت كيانًا سياسيًا معقدًا احتوى عناصر الاستبداد والمقاومة معًا. فالقمع لم يكن خصوصية عثمانية، والمقاومة لم تكن دائمًا نابعة من وعي تحرري. لكن المؤكد أن وجودها حال دون الهيمنة الغربية لقرون، وأن سقوطها فتح بوابات الاستعمار أمام الشرق العربي والإسلامي بلا مقاومة تُذكر.
ولذلك، فإن محاولة تصنيف الدولة العثمانية بين "قمع أو مقاومة" هي محاولة اختزال مخلّ، في حين أن التاريخ الحقيقي يسكن في المساحات الرمادية بين التصنيفات، ويُقرأ عبر تداخل الوظائف لا الأوصاف.