فلسطين: من قضية العرب المتخاذلين إلى قضية الضمير العالمي

لم تكن فلسطين في جوهرها يومًا "قضية عربية"، بل كانت دومًا قضية إنسانية كاشفة، لا تختبر عدالة الحق بقدر ما تكشف زيف العالم. لكنها حُوصرت طويلًا داخل الخطاب الرسمي العربي، الذي اختزلها في شعارات جوفاء، ومزايدات لا تنتهي، بينما كان الفعل يسير في اتجاه مضاد تمامًا: تنسيق أمني، تطبيع اقتصادي، تواطؤ ثقافي، وتخلي صريح عن المعركة الأصلية.

ومع الزمن، سقط القناع. فالعرب، رسميًا، لم يكونوا يومًا في صفّ فلسطين إلا بقدر ما تخدمهم ورقتها في معادلات الحكم أو خطاب الجماهير. ومع هذا السقوط، تحررت فلسطين من سجن الجغرافيا السياسية، وانطلقت نحو الفضاء الإنساني العالمي، لتصبح – في منعطفات التاريخ الحديثة – قضية الضمير العالمي بلا منازع.

1. انكشاف السردية الرسمية العربية: من التواطؤ إلى الصمت

لم يكن التخاذل العربي مجرد فشل في الدعم، بل كان شراكة فاعلة أحيانًا في خنق المقاومة، ووأد أصواتها، وتشويه رموزها. قُدِّمت فلسطين في إعلام الأنظمة كقضية تُوظّف لا كحقيقة تُخدم. وحين بدأت قوى المقاومة تُعبّر عن نفسها خارج الأطر الرسمية، بدأت الأنظمة تُشيطنها، وتمدّ الجسور مع العدو الذي تزعم مقاومته.

هذه الازدواجية أفرغت الخطاب العربي من صدقه، ودفعت الشعوب نحو البحث عن رواية بديلة.. رواية يسمعونها من الطفل الفلسطيني لا من الزعيم العربي.

2. كسر احتكار الرواية: من الإعلام التقليدي إلى البث المباشر من تحت الركام

لم يعد الفلسطيني في حاجة إلى قنوات الجزيرة أو العربية أو BBC ليُبث صوته. بات الهاتف المحمول وسيلته، ووسائط التواصل منصته. أصبحت صورة الأم الثكلى، وصرخة الطفل تحت الأنقاض، ومشهد القصف المباشر، أكثر تأثيرًا من آلاف المؤتمرات.

هذا التحوّل في أدوات السرد أتاح للرأي العام العالمي أن يرى الاحتلال بعيون ضحاياه، لا من خلال اللغة المنمّقة للناطقين العسكريين أو منظّري "حق الدفاع عن النفس". وهنا وُلدت فلسطين الجديدة في المخيال العالمي: صورة دم، لا دعاية.

3. من الاستعطاف إلى الحقوق: تطور الخطاب الفلسطيني العالمي

نجحت النخب الفلسطينية الجديدة في صياغة خطاب عالمي بعيد عن المظلومية المجردة، قائم على القانون الدولي، ومؤسسات حقوق الإنسان، والمساءلة الجنائية. لم تعد القضية تروى فقط كحكاية شعب مظلوم، بل كملف استيطان، تهجير قسري، إبادة جماعية، وفصل عنصري مثبت بالأدلة.

هذا التحول، المرهون بعقلية قانونية حديثة، جعل من فلسطين قضيّة أخلاقية تتجاوز حدود العاطفة إلى منطق العدالة والحقوق. وهكذا استطاعت أن تتسلل إلى الجامعات، والنقابات، والمؤسسات، بل وحتى إلى برلمانات العالم.

4. سقوط القناع عن "إسرائيل": من ضحية إلى جلاد عالمي

لعبت إسرائيل لعقود دور "الدولة المحاصرة" وسط غابة من الكراهية، تُدافع عن وجودها في وجه العرب المتوحشين. لكن وحشية القصف المتكرر، واستهداف الأطفال والمستشفيات، وتدمير البيوت على رؤوس ساكنيها، وظهور هذا كله بالصوت والصورة، حوّلها في وعي الشعوب الغربية من "دولة صغيرة تبحث عن الأمان" إلى "كيان استعماري دموي لا يتورع عن ارتكاب المجازر".

لم تعد تهمة "معاداة السامية" تكفي لإسكات الاحتجاجات، ولم يعد الصمت الغربي الرسمي قادرًا على كبح الغضب الشعبي. فقد سقطت إسرائيل أخلاقيًا، ليس فقط في نظر الفلسطينيين، بل في ضمير العالم كله.

5. فلسطين كرمز كوني للمقاومة والتحرر

اليوم، لم تعد فلسطين تخص العرب وحدهم، بل باتت رمزًا لكل مظلوم في العالم. ترفرف أعلامها في مسيرات السود بأمريكا، وفي احتجاجات الطلاب بباريس، وفي مظاهرات النقابيين بلندن، وحتى على صدور حركات من السكان الأصليين في كندا وأمريكا الجنوبية.

صارت فلسطين، بما تمثّله من وضوح الظلم وغياب العدالة، "ميزانًا أخلاقيًا" يختبر به الناس صدق الأنظمة، وعدالة الخطابات، وموقف المؤسسات. من لا يقف مع فلسطين اليوم، لن يصدّقه أحد حين يتحدث عن حقوق الإنسان غدًا.

الخاتمة

لقد تحررت فلسطين من عبء الأنظمة، وتجاوزت جغرافيا الخذلان، لتدخل فضاءً أوسع: ضمير البشرية. وإذا كان العرب قد خذلوها رسميًا، فإن شعوب العالم تحتضنها الآن كقضية تحرر أخلاقي، تكشف كل زيف، وتفضح كل ادعاء.
فلسطين اليوم، ليست فقط أرضًا تُحتل، بل مرآة تكشف من نحن، ومن هم، ومن أين يبدأ الحق، وإلى أين ينتهي الباطل.

أحدث أقدم
🏠