الجانب المظلم - الدول والكيانات: روسيا: قوى عظمى أم إمبراطورية تصدّر الخوف باسم الأمن؟

حين يُقال "روسيا"، يتداعى إلى الذهن مباشرة: القيصرية، السوفييت، الحرب الباردة، بوتين، وأوكرانيا.

دولة كُبرى لا تقبل التبعية، ولا تتورع عن استخدام السلاح لإثبات حضورها.
لكن الخطأ ليس في القوة وحدها، بل في سردية الحق المطلق التي تُبرر بها روسيا تدخلاتها، وقمعها الداخلي، وتوسعاتها الإقليمية، وكأنها دائمًا تدافع عن ذاتها، حتى وهي تجتاح الآخرين.

الخطاب المعلن

تروّج روسيا لنفسها كقوة مستقلة مقاومة للهيمنة الغربية، وتدّعي الدفاع عن سيادتها، وعن القيم التقليدية في وجه العولمة والانحلال الأخلاقي.
كما تقدم سياساتها في أوكرانيا وسوريا وآسيا الوسطى بوصفها "استجابة اضطرارية" لتهديدات غربية أو إرهابية.

الجانب المظلم

لكن الواقع يُظهر أن روسيا ليست ضحية المنظومة الدولية فقط، بل فاعل كبير في صناعتها، وهي تمارس هيمنتها بأساليب تقليدية قمعية تتفوّق في عنفها على الهيمنة الغربية الناعمة.

  • توسّع إمبراطوري مغلّف بالأمن
    من الشيشان إلى جورجيا إلى أوكرانيا، روسيا تبرّر تدخلاتها العسكرية بأنها "دفاع عن النفس"، بينما تسعى عمليًا إلى استعادة نفوذها الإمبراطوري عبر القوة.
    كل محيطها يُعامل كـ"منطقة نفوذ"، تُمنَع فيها الدول من تقرير مصيرها إن لم يكن متسقًا مع مصالح موسكو.

  • الداخل الروسي: قمع باسم الاستقرار
    حرية التعبير معدومة فعليًا، والمعارضون يُطاردون، والإعلام مستقل ظاهريًا فقط.
    كل رواية تخالف الخط العام تُصنّف على أنها "خيانة" أو "دعاية غربية"، وتُقابل بالمنع أو السجن أو التصفية الرمزية.
    الهوية الروسية تُفرَض بالقوة لا بالتنوع، والولاء للنظام يُساوي الولاء للوطن.

  • احتكار سردية "المظلومية التاريخية"
    روسيا تستثمر في خطاب "نحن منقذو أوروبا من النازية، وضحايا الخداع الغربي"، وتُضفي على دورها العسكري بعدًا أخلاقيًا ملفقًا.
    لكن هذه السردية تُستخدم لحجب الجرائم المرتكبة في الداخل والخارج، ولتبرير طموحات توسعية لا تختلف عن الاستعمار الكلاسيكي.

  • تحالفات براغماتية لا قيمية
    رغم انتقادها للغرب، فإن موسكو تتحالف مع قوى استبدادية في العالم الثالث، دون أدنى اعتبار لحقوق الشعوب.
    الدعم الروسي لا يُقدَّم من منطلق أخلاقي، بل منطق صفقات ونفوذ: من ليبيا إلى أفريقيا، من فنزويلا إلى سوريا، روسيا تبحث عن موطئ قدم لا عن عدالة.

  • تشويه الصراعات الشعبية
    في قضايا مثل الثورة السورية، دعمت روسيا أنظمة تقمع شعوبها، وقدّمت الأمر كصراع ضد الإرهاب.
    وهكذا تنقلب المعايير: تُصبح مقاومة الطغيان مؤامرة، ويُصبح دعم النظام المستبد موقفًا سياديًا!
    الهيمنة هنا لا تأتي بلباس "الديمقراطية" كما يفعل الغرب، بل بلباس "الشرعية" و"الوحدة" و"محاربة الإرهاب".

تطوير وعي نقدي: بين المطرقة الروسية والسندان الغربي

ليست روسيا بديلاً أخلاقيًا عن الغرب، بل وجه آخر لعملة السيطرة.
الصراع بينهما لا يدور من أجل تحرير الشعوب، بل من أجل اقتسام مناطق النفوذ، بينما تُسحق الشعوب تحت أقدام "الصراعات الكبرى".
من يظن أن الوقوف مع روسيا تحرر من أمريكا، إنما يستبدل سجّانًا بسجّان.

خاتمة تحليلية

روسيا، رغم خطابها المضاد للهيمنة الغربية، تُمارس هيمنة من طراز آخر: إمبراطوري، قمعي، متشبّع بعقدة الاستحقاق التاريخي.
ومن لا يرى إلا جبروت الغرب، ويغفل عن جبروت روسيا، لا يُبصر المعركة الحقيقية: معركة الشعوب من أجل التحرر من كل أوهام الحماية، وكل أصنام الأمن، وكل أباطرة الجغرافيا.

سلسلة: الجانب المظلم من العالم

+
أحدث أقدم

ويجيد بعد المقال


تنويه: هذا المقال (أو المحتوى) يقدم تحليلاً إعلامياً موضوعياً، ويخلو تماماً من أي تحريض أو دعوة للعنف، ويعكس رؤية نقدية متوازنة للأحداث، مع الالتزام التام بالأطر القانونية والمعايير المهنية.