
إنه إسماعيل هنية، الرجل الذي لم يصعد إلى السلطة عبر الدبابات، ولا اختبأ في الفنادق حين سقطت القذائف، بل مضى في طريق معقّد، بين الحصار والمقاومة، بين السياسة والميدان، وظلّ يمسك بجمر المسؤولية دون أن يلبس قفازات السلطة.
من الظلّ إلى الواجهة: صعود القائد الصامت
لم يكن هنية خطيبًا صاخبًا ولا رجل استعراض إعلامي. نشأ في مخيم الشاطئ، وسط الفقر والاحتلال، وعرف منذ صغره أن الكرامة لا تُمنح بل تُنتزع.
بدأ في الظل، مديرًا لمكتب الشيخ أحمد ياسين، ثم خطا بهدوء في دهاليز العمل السياسي حتى وصل إلى قيادة حماس، لا بانقلابات داخلية ولا بإقصاءٍ دموي، بل بثقةٍ تراكمت مع الزمن وصبرٍ لم ينهزم في لحظة امتحان.
في زمن الهروب... بقي
حين انهالت على غزة نيران الحروب، لم يركب طائرة إلى عاصمة آمنة. بقي هناك، مع الناس، في البيوت التي تُستهدف، في المساجد التي تُقصف، في الأزقة التي يتحرك فيها المقاومون لا السياسيون.
لم يكن وجوده رمزيًا، بل حقيقيًا. رجلٌ لم يقُد من بعيد، بل من قلب النار. لم يقدّم أبناءه دروعًا بشرية، بل قدّمهم قرابين مع الناس؛ قُتلوا في الحرب الأخيرة دون حماية خاصة، كما يُقتل أبناء الناس في الحروب المنسية.
القيادة بالعيش لا بالخطاب
الشارع لا يحتاج لمن يخطب عليه، بل لمن يعيش وجعه. وإسماعيل هنية – رغم أنه في قمة الهرم السياسي – لم يتعامل مع موقعه كامتياز، بل كتكليف. لم يُعرف عنه مظاهر ترف، أو بناء الثروات، أو سكن القصور.
لباسه البسيط، حضوره في الجنازات الشعبية، جلساته العفوية في المساجد، كلها كانت رسائل غير منطوقة: أن القيادة ليست موقعًا يُرتقى إليه، بل مسؤولية يُحترق بها.
بين الثوابت والمرونة
ربما كان التحدي الأصعب في تجربة هنية هو قدرته على الموازنة بين صلابة الموقف ومرونة السياسة. لم يقدّم تنازلات جوهرية تحت ضغط الحصار، ولم ينجرّ إلى الاصطفافات الإقليمية المسمومة، لكنه في الوقت نفسه ظلّ منفتحًا على المصالحة الوطنية، وعارفًا بلعبة التوازنات في منطقةٍ لا ترحم.
حين يعود للقيادة معناها
إن إسماعيل هنية ليس معصومًا، ولا تجربته خالية من التحديات والتناقضات. لكنه يُجسّد نوعًا من القيادة نفتقده في عالمنا العربي؛ قيادة تنبع من الأرض، لا من الورق.
قيادة تُبنى على العرق والدم، لا على الحضور الإعلامي أو القمع الأمني. قيادة تصمت حين يصرخ الآخرون، لكنها تتحرك حين يتجمّد الجميع.
وفي زمنٍ صارت فيه "القيادة" لقبًا يُمنح للمنبطحين والخانعين، تظلّ تجربة إسماعيل هنية تذكيرًا بأن القائد الحقيقي هو من يتقدّم في السلم الأخير حين يتراجع الجميع.