
إسماعيل هنية: القائد الذي مشى بين الأنقاض ولم ينحنِ
رجلٌ من زمن السقوط
في زمنٍ باتت فيه "القيادة" مصطلحًا يُفرغ من مضمونه ويُختزل في البروتوكول والرتب والمواكب، يظهر في غزة نموذج نادر يعيد لهذا المفهوم معناه الأصيل: أن تكون أول من يتقدّم وآخر من يستسلم. قائدٌ لا يشبه الزعماء المصنوعين من ورق، بل يُجسّد نموذجًا نادرًا من القيادة التي لا تُمارَس من فوق، بل تُصاغ من تحت الركام. في هذه الحلقة من سلسلة "رجال من زمن السقوط"، لا نتناول رجلًا ينتمي إلى الماضي فقط، بل إلى الحاضر الذي لا يزال يتشكّل تحت القصف والحصار.
إنه إسماعيل هنية، الرجل الذي لم يصعد إلى السلطة عبر الدبابات، ولا اختبأ في الفنادق حين سقطت القذائف، بل مضى في طريقٍ معقّد، بين الحصار والمقاومة، بين السياسة والميدان، وظلّ يمسك بجمر المسؤولية دون أن يلبس قفازات السلطة.
من الظل إلى الواجهة: صعود القائد الصامت
نشأ في مخيم الشاطئ، وسط الفقر والاحتلال، وعرف منذ صغره أن الكرامة لا تُمنح بل تُنتزع. لم يكن هنية خطيبًا صاخبًا ولا رجل استعراض إعلامي، بل بدأ في الظل، مديرًا لمكتب الشيخ أحمد ياسين، ثم خطا بهدوء في دهاليز العمل السياسي حتى وصل إلى قيادة حماس، لا بانقلابات داخلية ولا بإقصاء دموي، بل بثقةٍ تراكمت مع الزمن، وصبرٍ لم ينهزم في لحظة امتحان.
ومع انطلاقة الانتفاضة الأولى، كان من أوائل المعتقلين في سجون الاحتلال، وتعرض للتنكيل، لكن التجربة صقلته سياسيًا دون أن تقتل معنوياته. عرف منذ البداية أن المعركة ليست فقط في الميدان، بل في عقل الناس وإرادتهم.
من قيادة الظل إلى الصدارة
حين اغتيل الشيخ ياسين، وخلفه القادة الكبار واحدًا تلو الآخر، لم يبقَ من الجيل المؤسس سوى قلة. وفي تلك اللحظة الفاصلة، صعد اسم هنية لا بالاستعراض، بل بالثقة التي نسجها مع الناس، وبقدرته على الجمع بين الخطاب الشعبي والانضباط التنظيمي.
وفاز في انتخابات 2006 في حدثٍ هزّ العالم، لا لأن "حماس" فازت، بل لأن الفلسطينيين اختاروا المقاومة عبر صناديق الاقتراع. ثم بدأت الحرب المفتوحة: حُوصرت غزة فورًا، وقُطعت عنها كل روافد الدعم، لكن هنية بقي في موقعه، لم يغادر ولم يتراجع.
الزعيم تحت الحصار
منذ أكثر من 15 عامًا، تُحاصر غزة بحرًا وبرًا وجوًا، وتُقصف كل عدة سنوات، ويُقتل القادة وتُستهدف البيوت، لكن السلطة لم تنهَر، والمجتمع لم يسقط. وكان إسماعيل هنية أحد أهم رموز هذا الثبات الصامت. لم يكن صاخبًا، بل كان نموذجًا للقيادة الواقعية: يعرف متى يصمت، ومتى يفاوض، ومتى يرد. لا يُصعّد من أجل الاستعراض، ولا يُهادن من أجل النجاة.
في زمن الهروب… بقي
حين انهالت على غزة نيران الحروب، لم يركب طائرة إلى عاصمة آمنة. بقي هناك، مع الناس، في البيوت التي تُستهدف، في المساجد التي تُقصف، في الأزقة التي يتحرك فيها المقاومون لا السياسيون. لم يكن وجوده رمزيًا، بل حقيقيًا. لم يقُد من بعيد، بل من قلب النار. لم يقدّم أبناءه دروعًا بشرية، بل قدّمهم قرابين مع الناس؛ قُتلوا في الحرب الأخيرة دون حماية خاصة، كما يُقتل أبناء الناس في الحروب المنسية.
القيادة بالعيش لا بالخطاب
الشارع لا يحتاج لمن يخطب عليه، بل لمن يعيش وجعه. وإسماعيل هنية – رغم أنه في قمة الهرم السياسي – لم يتعامل مع موقعه كامتياز، بل كتكليف. لم يُعرف عنه مظاهر ترف، أو بناء الثروات، أو سكن القصور. لباسه البسيط، حضوره في الجنازات الشعبية، جلساته العفوية في المساجد، كلها كانت رسائل غير منطوقة: أن القيادة ليست موقعًا يُرتقى إليه، بل مسؤولية يُحترق بها.
بين الثوابت والمرونة
ربما كان التحدي الأصعب في تجربة هنية هو قدرته على الموازنة بين صلابة الموقف ومرونة السياسة. لم يقدّم تنازلات جوهرية تحت ضغط الحصار، ولم ينجرّ إلى الاصطفافات الإقليمية المسمومة، لكنه في الوقت نفسه ظلّ منفتحًا على المصالحة الوطنية، وعارفًا بلعبة التوازنات في منطقةٍ لا ترحم.
رفض الانخراط في الحروب الطائفية، ورفض ارتهان غزة لأي عاصمة. ولهذا لم يُرضِ أحدًا، لكنه أيضًا لم يخسر جوهر حركته.
حين يعود للقيادة معناها
إسماعيل هنية ليس معصومًا، ولا تجربته خالية من التحديات والتناقضات. لكنه يُجسّد نوعًا من القيادة نفتقده في عالمنا العربي؛ قيادة تنبع من الأرض، لا من الورق. قيادة تُبنى على العرق والدم، لا على الحضور الإعلامي أو القمع الأمني. قيادة تصمت حين يصرخ الآخرون، لكنها تتحرك حين يتجمّد الجميع.
لم يكن مشروعًا ثقافيًا، ولا رمزًا أيديولوجيًا، بل امتدادًا واقعيًا لحلمٍ لم ينكسر رغم كل شيء. رجلٌ من لحم ودم… مشى بين الأنقاض، ولم يُغيّر نبرته، ولا كلمته. ولهذا، فإن وجوده وحده… في هذا الزمن المائل، هو في حد ذاته رسالة مقاومة.
سلسلة: رجال من زمن السقوط