ما بعد النصر: الحرب الوحيدة التي انتصرت فيها أمريكا حقًا بعد الحرب العالمية الثانية

لا تكمن هيبة القوة في امتلاكها، بل في القدرة على توجيهها نحو أهداف سياسية تُحقّق على الأرض. وقد خاضت الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية عددًا من الحروب المباشرة تحت شعارات مختلفة: من مكافحة الشيوعية، إلى نشر الديمقراطية، إلى "محاربة الإرهاب". غير أن حصيلة هذه الحروب من حيث النتائج الحقيقية، تكشف أن الانتصار العسكري لا يعني بالضرورة تحقيق النصر السياسي، بل قد يتحول التفوق العسكري إلى عبء استراتيجي طويل الأمد.

لكن وسط هذا التاريخ المليء بالتدخلات المعقدة، تبرز حالة واحدة فقط يُمكن وصفها بأنها مثال على "نصر أمريكي ناجز" تحقق فيه الهدف العسكري والسياسي دون انزلاق إلى فوضى دائمة. إنها حرب الخليج الثانية عام 1991، أو ما عُرف بعملية "عاصفة الصحراء".

النصر المحدود هو النصر الحقيقي

في أغسطس 1990، اجتاحت القوات العراقية بقيادة صدام حسين دولة الكويت، ما اعتُبر تهديدًا مباشرًا لمصالح الولايات المتحدة وحلفائها في الخليج. حينها حشدت أمريكا تحالفًا دوليًا غير مسبوق تحت مظلة الأمم المتحدة، وتدخلت عسكريًا بعملية خاطفة استمرت قرابة 43 يومًا.

الهدف كان واضحًا: إخراج العراق من الكويت وإعادة الحكومة الشرعية، لا إسقاط النظام العراقي أو احتلال بغداد. وبالفعل، انسحب الجيش العراقي تحت الضربات الجوية المكثفة، وعادت الكويت إلى ما كانت عليه، دون أن تنغمس أمريكا في فوضى الاحتلال أو بناء الدولة.

ولأول مرة، تقف الولايات المتحدة على مسرح حرب حديثة وقد جمعت بين الشرعية الدولية، والسرعة العسكرية، والاقتصاد في الأهداف، مما جعل نتائج الحرب ملموسة ومستقرة – ولو مؤقتًا – دون تكلفة استراتيجية كارثية.

لماذا فشلت أمريكا في باقي الحروب؟

حرب فيتنام (1955–1975): خسر الأقوى

رغم التفوق التكنولوجي الأمريكي، كانت فيتنام نموذجًا صارخًا للفشل الذريع. الحرب التي خاضتها أمريكا بذريعة وقف الشيوعية، تحوّلت إلى مستنقع دامي استنزف مئات الآلاف من الأرواح دون أن يحقق أي نصر سياسي. سقطت سايغون في النهاية، وانسحبت أمريكا مهزومة، لتصبح فيتنام درسًا مريرًا في حدود القوة العسكرية.

حرب أفغانستان (2001–2021): أطول الحروب وأقصر النتائج

بعد هجمات 11 سبتمبر، غزت أمريكا أفغانستان بهدف القضاء على تنظيم القاعدة، وإسقاط طالبان. ورغم سقوط النظام سريعًا، إلا أن المشروع الأمريكي لإعادة تشكيل الدولة الأفغانية فشل تمامًا. وبعد 20 عامًا من الاحتلال، عادت طالبان إلى الحكم بمجرد انسحاب آخر جندي أمريكي. كأن شيئًا لم يكن.

حرب العراق (2003): إسقاط النظام لا يعني إسقاط الفوضى

دخلت أمريكا العراق تحت ذريعة أسلحة الدمار الشامل، وأطاحت بصدام حسين في أسابيع. لكنها لم تملك تصورًا حقيقيًا لما بعد ذلك. أدى الاحتلال إلى انهيار الدولة، واندلاع الطائفية، وصعود تنظيمات متطرفة، وتوسّع النفوذ الإيراني. بل تحوّلت الحرب إلى أحد أكبر الأخطاء الاستراتيجية في تاريخ أمريكا الحديث، بحسب شهادات من داخل دوائرها.

الحرب الكورية (1950–1953): نصف نصر، نصف هزيمة

دخلت أمريكا كوريا لوقف تمدد الشيوعية، ونجحت في الدفاع عن الجنوب، لكنها عجزت عن توحيد شبه الجزيرة أو كسب الحرب فعليًا. انتهت الحرب بوقف إطلاق النار لا بمعاهدة سلام، ولا تزال كوريا منقسمة حتى اليوم.

الشرعية الدولية: ما الذي غيّر المعادلة؟

من أبرز الفوارق الجوهرية التي ميّزت حرب الخليج الثانية عن بقية الحروب الأمريكية اللاحقة، هي الشرعية الدولية التي أُحيط بها التدخل. فالحرب ضد العراق عام 1991 جرت تحت مظلة قرارات صادرة من مجلس الأمن، وضمن تحالف دولي ضم أكثر من 30 دولة، ما منح العملية غطاءً قانونيًا وأخلاقيًا قلّما توفّر في الحروب التالية.

في المقابل، حين غزت أمريكا أفغانستان (2001) ثم العراق (2003)، تراجع الغطاء الدولي وتقدّمت الرؤية الأحادية، خصوصًا في الحالة العراقية التي مثّلت ذروة تجاهل المجتمع الدولي. لم تعد أمريكا تخوض حربًا باسم "النظام العالمي"، بل باسم "الردع الاستباقي" و"محاربة الإرهاب"، وهي مفاهيم مطاطية لا تلقى القبول خارج دوائرها. وكان لهذا الغياب أثر مباشر في تآكل المصداقية، وازدياد الكلفة السياسية والعسكرية، وتصاعد المقاومة داخل المجتمعات المستهدفة.

لقد أثبتت التجربة أن الشرعية الدولية ليست مجرد غطاء دبلوماسي، بل عنصر استراتيجي يحسم طبيعة الانتصار ومآلاته. فحرب تُخاض بغطاء أممي قد تُنهي الصراع، أما حرب بلا شرعية فهي غالبًا لا تنهي سوى وهم التفوق.

بين التفوق العسكري والفشل الاستراتيجي

من يتأمل هذا المسار، يدرك أن أمريكا لم تعانِ من ضعف في السلاح، بل من التناقض بين الأهداف السياسية والطموحات الأيديولوجية. فكلما اتسعت الأهداف (إعادة تشكيل شعوب، أو "بناء دول")، اتسعت الفجوة بين النصر العسكري والفشل السياسي. وحدها حرب الخليج الثانية نجَت من هذا المصير، لأنها حدّدت غاياتها بدقة، وتوقّفت عندها.

خلاصة: متى تنتصر القوة؟

ليست العبرة في الانتصار بالسلاح، بل في حُسن استخدامه ضمن إطار سياسي عقلاني لا يغرق في أوهام التغيير الشامل. لقد خاضت أمريكا بعد الحرب العالمية الثانية أكثر من حرب، لكنها لم تحقق نصرًا حقيقيًا شاملًا إلا حين كانت واضحة الأهداف، محدودة الطموح، دقيقة التنفيذ.

أحدث أقدم
🏠