حين تجلس الصين على طاولة الآسيان... ويقف الخليج عند الباب

في مشهد جيوسياسي تتداخل فيه المصالح وتتشابك فيه التحالفات، يبرز سؤال جوهري: لماذا تحضر الصين، ومعها دول مجلس التعاون الخليجي، في قمة مخصصة أساسًا لتكتل إقليمي آسيوي مثل "الآسيان"؟ أليست "رابطة دول جنوب شرق آسيا" شأناً داخليًا لدول تلك المنطقة؟ 
فما سر هذا الحضور غير العضوي، ومن المستفيد من هذا التقاطع في المسارات؟ 
محاولة نقدية لفهم خلفيات هذا التمدد، وتفكيك دلالاته السياسية والاقتصادية في لحظة تشهد انزياحًا بطيئًا لمركز الثقل العالمي نحو الشرق.


ما هو الآسيان؟ ولماذا يبدو الحضور الصيني طبيعيًا؟

رابطة دول جنوب شرق آسيا (ASEAN) تأسست عام 1967 وتضم عشر دول: إندونيسيا، ماليزيا، تايلند، الفلبين، سنغافورة، بروناي، فيتنام، لاوس، ميانمار، وكمبوديا. الهدف المعلن: تعزيز التعاون الاقتصادي والسياسي والأمني، بعيدًا عن الهيمنة الغربية أو النزاعات الإقليمية.

لكن الصين، رغم أنها ليست عضوًا، تحضر بقوة في كافة لقاءات الآسيان الموسعة، بل تُعامل كشريك أساسي في مشاريع التجارة والبنية التحتية والمفاوضات.


لماذا الصين "هنا" إذًا؟

  • لأن الصين لا تترك فراغًا، بل تملأه.
  • ولأن من يُمسك بالمفاصل الاقتصادية والسياسية في الجوار، يُمسك بالخيوط التي تُحرّك المصالح.

الصين تمثل قوة جغرافية، واقتصادية، وسياسية جارفة التأثير، وهذه أبرز أدواتها:

  • الهيمنة التجارية: الصين هي الشريك التجاري الأول لدول الآسيان، متفوقة على أمريكا وأوروبا. اقتصاديات الدول الصغيرة في الرابطة أصبحت مشدودة إلى السوق الصينية كما يُشدّ الغصن إلى الجذر.
  • الحزام والطريق: معظم دول آسيان تشارك في مشروع الصين الطموح لإعادة رسم خرائط التجارة العالمية. عبر الموانئ والقروض والربط اللوجستي، تُحكم الصين قبضتها الناعمة.
  • إدارة النزاعات بدلًا من تفجيرها: الصين تفضل تفكيك التوترات حول بحر الصين الجنوبي عبر التفاهمات الثنائية ومظلة الآسيان، لا عبر الهيئات الدولية، كي تبقى الكلمة العليا لها.


لكن لماذا الخليج هنا أيضًا؟ ما الذي يدفع دول مجلس التعاون لعبور القارات لحضور قمة آسيوية؟


هنا تزداد الأسئلة عمقًا، لأن الحضور الخليجي في قمة آسيان ليس امتدادًا طبيعيًا، بل انعكاس لتحوّل استراتيجي عميق في العقل الجيوسياسي الخليجي، يرتكز على خمسة ملامح رئيسية:

1. التحوّل شرقًا: عقل ما بعد التبعية

دول الخليج، وعلى رأسها السعودية والإمارات وقطر، بدأت منذ سنوات في إعادة رسم بوصلتها الخارجية. فبعد عقود من الاعتماد الكامل على المظلة الغربية، بدأت ملامح سياسة جديدة تتبلور: سياسة تعدد الشراكات دون ارتهان، والانفتاح على القوى الآسيوية الصاعدة دون القطيعة مع الغرب.

2. البحث عن أسواق بديلة وممرات جديدة

دول الآسيان تمثل أكثر من 650 مليون مستهلك، بنمو اقتصادي متسارع وتكنولوجيا متقدمة. بالنسبة للخليج، هذا يعني:

  • زبائن جدد للنفط والغاز والبتروكيماويات.
  • فرص شراكة في التكنولوجيا والطاقة المتجددة.
  • تنويع الشركاء بعيدًا عن الاحتكار الغربي.

3. التقارب مع الصين من بوابة آسيان

الحضور في الآسيان هو أيضًا تكتيك دبلوماسي: الخليج يريد الاقتراب من الصين، دون التصادم مع أمريكا. ومن خلال هذه المنصة الآسيوية، يستطيع الخليجيون أن يرسلوا إشارات للصين دون أن يُقال إنهم ابتعدوا عن الغرب.

4. التحوّط أمام تغيّرات ميزان القوى العالمي

الولايات المتحدة تبدو أكثر انكفاءً وارتباكًا في إدارتها لتحالفاتها. وفي ظل صعود التنافس الأمريكي-الصيني، يبحث الخليج عن تموضع جديد يقيه الانكشاف.

5. صناعة دور جديد: من التابع إلى الفاعل

الحضور في التكتلات الآسيوية يعطي بعض الدول الخليجية شعورًا بأنها لا تنتظر دعوة من الغرب، بل تصوغ دورها بنفسها. حضور الإمارات والسعودية في قمم شرق آسيا يعكس رغبة في أن يكون لها كلمة في صياغة توازنات القرن الآسيوي.


ولكن: هل الخليج جزء من المشهد الآسيوي فعلًا؟

لا. ليس جغرافيًا، ولا سياسيًا، ولا ثقافيًا. الخليج ضيفٌ في هذه المنصة، وإن كان ضيفًا ثريًا.

دول آسيان ليست تكتلاً أيديولوجيًا، بل نادي مصالح براغماتي. هم لا يهتمون كثيرًا إن كنت ديمقراطيًا أو سلطويًا، طالما أنك لا تُهدد الاستقرار وتأتي بأموالك واستثماراتك.

لكن الخطر في هذا النوع من الحضور هو أن تظل "الممول" و"المستهلك"، لا "الشريك المصمم" للقرارات. فالصين تصوغ، وآسيان تناور، والخليج يشتري.


في الخلاصة:

الصين هنا لأنها تُريد أن تُحكم السيطرة على محيطها الاقتصادي والسياسي بذكاء النفوذ لا بسطوة الجيوش.

والخليج هنا لأنه لا يريد أن يفوّت القطار القادم من الشرق، بعدما بات يدرك أن عصر القطبية الواحدة انتهى، وأن من لا يحجز مقعدًا في آسيا، قد يُترك واقفًا في محطة الغرب المنهك.

لكن الفارق الجوهري هو أن:

  • الصين تُمسك بالخيوط، وتصنع مسرح اللعبة.
  • بينما الخليج، حتى الآن، لا يزال يحاول أن يجد لنفسه دورًا في المشهد، دون أن يملك أدوات السيادة على المسار.

أحدث أقدم
🏠