
أولًا: إندونيسيا بلد غني... فلماذا الفقر؟
رغم امتلاكها احتياطات ضخمة من النفط، الغاز، الفحم، النيكل، الذهب، المطاط، الأخشاب، إضافة إلى موقعها الجغرافي البحري الاستراتيجي، تعاني إندونيسيا من معدلات فقر مرتفعة نسبيًا، خصوصًا في الأرياف والمناطق النائية. وهذا التناقض يرتبط بعوامل عديدة:
- الفساد البنيوي: توزيع الثروة تركز تاريخيًا في يد نخبة سياسية واقتصادية ضيقة، مما جعل العائد من الموارد لا يصبّ في صالح عامة الشعب.
- نمط الاقتصاد التابع: بقيت إندونيسيا، منذ العهد الاستعماري وحتى اليوم، أسيرة دور "المورّد للمواد الخام" دون تطوير صناعي محلي حقيقي يحوّل تلك المواد إلى قيمة مضافة لصالح الدولة.
- الديون الخارجية والتبعية المالية: في العقود الأخيرة، ظلت إندونيسيا تستدين من المؤسسات المالية الغربية بشروط قاسية، مما جعل معظم الإنفاق العام يذهب لسداد الديون بدل تحسين المعيشة.
ثانيًا: دور سوهارتو في ترسيخ الفقر
سوهارتو حكم البلاد بقبضة حديدية من عام 1967 حتى 1998، بعد أن انقلب على سلفه "سوكارنو" في واحدة من أكثر العمليات السياسية دموية في تاريخ البلاد الحديث، أدت إلى مقتل ما يقرب من مليون شخص بدعوى "محاربة الشيوعية".
ورغم بعض النجاحات الاقتصادية الشكلية في فترة حكمه، فقد كان حكمه أحد الأسباب الجوهرية للفقر المستدام للأسباب التالية:
- الفساد المنهجي: سوهارتو أسّس شبكة حكم عائلية فاسدة، حيث سيطرت عائلته والمقربون منه على الشركات الكبرى والعقود الحكومية، وجرى نهب منظم لثروات البلاد.
- خصخصة موارد الدولة لصالح النخبة: في ظل شعارات "التنمية" تم تسليم قطاعات كاملة من الاقتصاد لمستثمرين أجانب أو محليين مرتبطين بالنظام.
- قمع الحريات ومنع الحراك الشعبي: سوهارتو لم يكتف بتجفيف الموارد الاقتصادية عن عامة الناس، بل مارس القمع الأمني الذي ألغى أي إمكانية للاحتجاج أو التنظيم السياسي البديل، مما أبقى الوضع على ما هو عليه لعقود.
ثالثًا: علاقة سوهارتو بالغرب ودوره في التبعية
الانقلاب على سوكارنو لم يكن فقط عملًا داخليًا، بل كان مدعومًا من المخابرات الأمريكية والبريطانية بشكل مباشر، لأن سوكارنو كان يُنظر إليه كقائد "غير موثوق" بسبب ميوله اليسارية وتحالفه مع الصين والاتحاد السوفيتي.
بعد تولي سوهارتو الحكم:
- فتح الاقتصاد الإندونيسي أمام الغرب بلا شروط: تم السماح للشركات الغربية الكبرى باستغلال النفط والمعادن والأخشاب، مقابل نسب ضئيلة جدًا تعود إلى الدولة.
- أُعيدت هندسة التعليم والإعلام لصالح الأيديولوجيا النيوليبرالية: حيث تم ترويج خطاب "الاستقرار فوق الحرية"، واستخدم سوهارتو هذا الخطاب ليحظى بدعم غربي مطلق.
- التحالف الأمني مع أمريكا: ساعدته الولايات المتحدة على قمع التمردات الداخلية، وخاصة في تيمور الشرقية التي غزاها الجيش الإندونيسي بدعم أمريكي مباشر، ما أدى إلى مجازر واسعة.
خلاصة نقدية
إندونيسيا ليست فقيرة لأنها تفتقر إلى الموارد، بل لأنها وقعت ضحية تحالف ثلاثي بين النخبة الفاسدة، والشركات العالمية، والدعم الغربي لنظام استبدادي. وقد مثّل سوهارتو نموذجًا واضحًا لهذا النمط من الحكم الذي "يبيع الثروة مقابل البقاء في السلطة".
ورغم التحسن النسبي بعد الإطاحة به عام 1998، ما زالت آثار تلك الحقبة تُثقل كاهل الدولة والشعب، خصوصًا في ملفات توزيع الثروة، وملف تيمور الشرقية، والديون القديمة، والانقسام الطبقي العميق.