إندونيسيا : قصة إنقلاب سوهارتو على سلفه

شهدت إندونيسيا في منتصف الستينيات واحدة من أكثر اللحظات المفصلية في تاريخها الحديث، حين أطاح الجنرال سوهارتو بالرئيس المؤسس أحمد سوكارنو في انقلاب ناعم تغلّفته مجازر دموية. لم يكن الأمر مجرد صراع على السلطة، بل انعكاسًا لصدام عالمي بين مشروع تحرري أراده سوكارنو، وتحالف استراتيجي بين الجيش والنخب والغرب أراده سوهارتو. تحت ذريعة "إحباط محاولة انقلاب شيوعي"، أُبيد مئات الآلاف من الإندونيسيين في حملة تطهير مروعة. وهكذا، سُحقت التجربة الوطنية الوليدة، ليدخل البلد في عصر من القمع والتبعية السياسية والاقتصادية، ما زالت آثاره ممتدة حتى اليوم.

 

قصة انقلاب سوهارتو على الرئيس أحمد سوكارنو عام 1965 ليست مجرد انتقال سلطة داخلي، بل واحدة من أعقد وأشدّ الأحداث دموية في القرن العشرين، حيث تداخلت فيها الحسابات الداخلية بالصراعات الدولية في أوج الحرب الباردة، وانتهت بتحوّل إندونيسيا من دولة ذات طموح تحرري مستقل إلى دولة تابعة للمعسكر الغربي اقتصاديًا وسياسيًا لعقود.

القصة من ثلاث زوايا: سياق الانقلاب، مسرحية "محاولة الانقلاب الشيوعي"، ودور سوهارتو والغرب.


1. السياق: سوكارنو والحلم التحرري

أحمد سوكارنو، زعيم الاستقلال، كان يطرح مشروعًا طموحًا لبناء إندونيسيا قوية، متحررة من الاستعمار، تمزج بين الإسلام، القومية، والاشتراكية في ما سماه بـ"الديمقراطية الموجهة". وقف بوجه الشركات الغربية، وساند الحركات المناهضة للاستعمار في آسيا وأفريقيا، وكان مقرّبًا من الصين والاتحاد السوفيتي.

لكنه واجه مشاكل:

  • أزمة اقتصادية خانقة بسبب الحصار الغربي.
  • انقسام داخلي حاد بين الجيش القومي واليساريين (وخاصة الحزب الشيوعي الإندونيسي – PKI الذي كان وقتها ثالث أكبر حزب شيوعي في العالم).
  • قلق غربي متزايد من نفوذه المتصاعد، خاصة بعد تنظيمه مؤتمر باندونغ (1955) الذي ألهم حركات الاستقلال.


2. الليلة الغامضة: 30 سبتمبر 1965

في فجر ذلك اليوم، جرى ما اعتُبر رسميًا "محاولة انقلاب شيوعي". مجموعة صغيرة من الضباط أعلنوا أنهم اعتقلوا كبار قادة الجيش (وقتلوا بعضهم) لحمايتهم من "مؤامرة ضد سوكارنو". الحركة أطلقت على نفسها اسم "حركة 30 سبتمبر".

لكن سرعان ما تدخل الجنرال سوهارتو، قائد القوات الاستراتيجية وقتها، وسيطر على العاصمة، وأعلن القضاء على "التمرد الشيوعي".

ثم بدأت المجازر.


3. المجازر والانقلاب الحقيقي

  • قاد سوهارتو حملة تطهير دامية ضد أعضاء الحزب الشيوعي ومؤيديه المفترضين، أُعدم فيها ما بين 500 ألف إلى مليون شخص، في واحدة من أفظع جرائم الإبادة السياسية المعاصرة.
  • اعتُقل مئات الآلاف في معسكرات لأعوام دون محاكمات.
  • رُوّج لرواية أن الشيوعيين قتلوا الجنرالات بطريقة وحشية، لكن التحقيقات الحديثة ترجّح أن ذلك مجرد دعاية أُنتجت لتبرير الانقلاب.

في العام التالي، أجبر سوهارتو سوكارنو على نقل السلطة له تحت ذريعة "تفويض الطوارئ"، وأُجبر سوكارنو لاحقًا على الاستقالة ووُضع قيد الإقامة الجبرية حتى وفاته عام 1970.


4. الدور الغربي: الانقلاب الذي أرادته واشنطن

الولايات المتحدة وبريطانيا كانتا تخشيان سقوط إندونيسيا في قبضة الشيوعية، خاصة وأنها دولة ضخمة من حيث السكان والموقع.

  • دعمت وكالة الاستخبارات المركزية (CIA) سوهارتو سرًا، وقد زوّدته بأسماء المشتبه بانتمائهم للحزب الشيوعي.
  • تم السكوت الكامل على المجازر، بل شجّع الإعلام الغربي الرواية الرسمية بأنها كانت "ضرورية لمنع الفوضى".
  • وثائق أُفرج عنها لاحقًا تؤكد أن واشنطن رأت في صعود سوهارتو "انتصارًا هادئًا للولايات المتحدة في الحرب الباردة".

خلاصة نقدية

لم يكن ما جرى عام 1965 مجرّد صراع بين ضباط، بل عملية منظمة لإعادة تشكيل السلطة في إندونيسيا لصالح معسكر رأسمالي عالمي. تم استخدام ذريعة "الخطر الشيوعي" لتبرير انقلاب دموي، وتُرك الشعب الإندونيسي ليدفع ثمنًا باهظًا من دمائه وهويته السياسية.

وإذا كان سوهارتو قد مثّل "الرجل القوي" القادر على ضبط البلاد، فقد فعل ذلك بإبادة سياسية شاملة، وتحويل اقتصاد الدولة إلى سوق مفتوحة تُنهب مواردها بهدوء، تحت حماية دولية.

أحدث أقدم
🏠