
الإجابة ليست سطحية، بل تتطلب تفكيكًا عميقًا من ثلاث زوايا رئيسية.
أولًا: هل فعلاً دعمت أمريكا هذا المسار الصناعي؟
الواقع أن الولايات المتحدة لم تدعم التصنيع التركي، لكنها في البداية لم تعرقله أيضًا. وهذا نوع من التغاضي الاستراتيجي، حين لا ترى واشنطن تهديدًا مباشرًا أو تعتبر أن الحليف لا يزال تحت السيطرة.
تركيا ظلت داخل حلف الناتو، ولم تنفصل عن الاقتصاد العالمي، كما أبقت على علاقاتها الاستخباراتية والعسكرية مع إسرائيل والغرب. وبدا أن مشروع "حزب العدالة والتنمية" في بدايته يقدّم نموذجًا إسلاميًا ليبراليًا يمكن احتواؤه ضمن النظام العالمي.
هذا الوضع منح تركيا نافذة زمنية للتحرك دون استعداء مباشر من واشنطن، خاصة في ظل انشغال أمريكا بملفات أخرى (العراق، أفغانستان، الأزمة المالية، صعود الصين).
ثانيًا: ما هو مصدر دعم تركيا في التصنيع؟
تركيا اعتمدت على خمس ركائز محلية واستراتيجية:
-
إرادة سياسية مركزية واضحة جعلت التصنيع أولوية سيادية.
-
تحالف الدولة مع القطاع الصناعي الوطني، خصوصًا في الدفاع، كما في تجربة شركة "بايكار".
-
استغلال الفضاء الرمادي بين القوى الكبرى للحصول على التكنولوجيا وتوطينها.
-
الاستفادة من الصراعات الإقليمية كمختبر واقعي لاختبار السلاح والترويج له.
-
تراكم التجارب التاريخية لدى النخب التركية التي تعلمت من إخفاقات دول أخرى.
ثالثًا: لماذا لم تتدخل أمريكا مبكرًا؟
لم يكن هناك سبب مباشر للعداء، بل إن تركيا سلكت اسلوب التمويه الذكي: وبدت وكأنها تتحرك ضمن "اللعبة الدولية" بشروط مقبولة. لم تصطدم بالغرب خطابًا، ولم تتبنَّ مشروعًا ثوريًا.
الانشغال الأمريكي: كانت أمريكا منشغلة خلال العقد الماضي بأزمات داخلية (الأزمة المالية 2008، وصعود الصين، وانسحابها من أفغانستان)، ولم تكن بوارد فتح جبهة جديدة مع تركيا الحليفة ضمن الناتو.
التحول جاء بالتدريج: لم يكن هناك قفزة مفاجئة تستفز واشنطن، بل تراكم بطيء ومتصاعد لم تكن تبعاته واضحة إلا في السنوات الأخيرة، حين بدأت تركيا تبيع طائرات مسيرة وتدخل سوق السلاح العالمية، وهنا بدأ التوتر الفعلي يظهر.
لكن مع تزايد استقلالية القرار التركي، وتصاعد نفوذ الصناعات الدفاعية محليًا وإقليميًا، بدأت ملامح التوتر تظهر في ملفات أخرى، مثل أزمة طائرات الـF-35، وشراء منظومة S-400 الروسية، والتوترات مع أوروبا.
هذا يدل على أن التغاضي الأمريكي لم يكن دعمًا، بل محاولة لاحتواء المشروع التركي قبل أن يتحول إلى كيان مستقل فعليًا.
تركيا تعلّمت من إخفاقات ماليزيا وإيران وباكستان
ما ميّز النموذج التركي أنه استفاد بذكاء من تجارب ثلاث دول حاولت التصنيع قبله، لكنه لم يُكرر أخطاءها:
- ماليزيا ركّزت على التنمية الاقتصادية والانفتاح التجاري، لكنها لم تبنِ قاعدة صناعية مستقلة، وظلت رهينة للاستثمارات الأجنبية والتكنولوجيا المستوردة. النتيجة: تقدّم استهلاكي دون قوة استراتيجية.
تركيا أدركت أن الاستقلال الصناعي لا يُشترى، بل يُصنع من الداخل، خاصة في القطاعات السيادية كالدفاع والتكنولوجيا.
- إيران سلكت طريق التصنيع مبكرًا بعد الثورة، لكنها دخلت في مواجهة مباشرة مع الغرب، ففُرض عليها حصار خانق أعاق نموّها رغم التقدم التقني.
تركيا اختارت التصعيد التدريجي، وراوغت ضمن النظام العالمي حتى اشتدّ عودها، فبدأت ترفع سقف الاستقلال دون أن تُحاصر في بداياتها.
- باكستان امتلكت طموحات نووية وصناعية، لكنها اعتمدت على الدعم الخارجي، سواء من أمريكا أو الصين، ما جعل صناعتها الدفاعية رهينة القرار السياسي الأجنبي.
تركيا بنت صناعتها من خلال شراكة داخلية بين الدولة والقطاع الوطني، وقلّصت اعتمادها على الخارج في الملفات الحساسة.
خلاصة نقدية:
ما حدث في تركيا لم يكن معجزة، بل ثمرة لعقل استراتيجي فهم قواعد اللعبة العالمية، وعرف كيف يتحرك بين الخطوط الحمراء دون أن يُستنزف أو يُستهدف مبكرًا.
لكن من المهم أن نفهم أن هذا النموذج التركي لا يزال في طور المخاض، وما نراه اليوم من أزمات اقتصادية وضغوط سياسية هو جزء من الثمن المتوقع لأي محاولة للانعتاق الصناعي في عالم تحرسه قوى الهيمنة بدقة.