الانتحار السياسي والرمز المحروق: تداعيات سياسية

في عالم لا يُراد فيه للصراع أن يظهر، تُصمَّم نهايات الرموز لا بالسيوف بل بالمرايا.
يُدفع الرمز لأن يرى نفسه مجرمًا، خائنًا، ساقطًا في أعين الجماهير التي طالما أحبّته، فيبدأ بنفسه مهمة الانتحار. لا حاجة لطلقة في الرأس، ولا لحبل في زنزانة. فالحبال الحقيقية تُنسج في الخفاء، من سرديات، وضغوط، وشائعات، ومواقف محسوبة… تُظهر الرمز وكأنه يختار نهايته، بينما هو مُسيّر نحوها بخيوط غير مرئية.


آلية الدفع إلى الحرق الذاتي

لا يُستهدف الرمز مباشرة، بل يُقاد إلى اتخاذ قرارات تُفقده شرعيته بنفسه.
يُورّط في موقف رمادي، أو يُدفع للتصريح في لحظة ملغومة، أو يُستدرج إلى اصطفاف يعتقد أنه صائب، لكنه في الواقع خطوة محسوبة نحو إحراقه العلني.

ما يبدو للناس "خيانة" أو "سقطة أخلاقية" قد يكون في خلفيته عملية معقدة من الضغط النفسي والتلاعب الإعلامي والعزلة التدريجية، حتى يتصرف الرمز على نحو يُفقده قاعدته الشعبية.

هنا، لا تُكسر صورته من الخارج، بل ينهار من داخله.
وهكذا، ينفذ الأعداء مهمتهم دون أن يلوثوا أيديهم: الرمز هو من حرق نفسه بنفسه.


حين يُقصى لأنه اقترب من الحقيقة

في حالات أخرى، لا يُدفع الرمز للحرق، بل يُقصى لأن قربه من الحقيقة بات مهددًا.
شخصية عامة - دينية أو فكرية أو فنية - يبدأ بالتساؤل، أو التلميح، أو الغمز من جهة المحرّمات السياسية الكبرى… فيُستدرج إلى زلة صغيرة تكفي لإخراجه من المشهد.

أحيانًا لا يحتاج النظام لأكثر من فتوى مريبة، أو توقيع على بيان، أو مشاركة في لقاء مشبوه… لتُقلب الجماهير ضده، ويُقال: هذا ليس رمزًا، بل عميل أو جاهل أو طامع.

لكن الحقيقة أن رمزيته هي ما جعلته خطرًا، وصمته لم يعد كافيًا.
فكان لا بد من تحويله من رمز محرج إلى كيان مكروه، لا بيد السلطة، بل بأيدي الجماهير أنفسهم.


حين يُغلف الاغتيال بعنوان "انتحار"

وفي مرحلة أكثر رعبًا، تتحوّل المجازيات إلى وقائع دموية.
لا يُحرق الرمز هنا رمزيًا، بل يُسجن فجأة، ثم يُعلن لاحقًا أنه "انتحر".

لكن الانتحار، في مثل هذه السياقات، ليس قرارًا فرديًا.
من كان صلبًا لعقود، لا ينهار في زنزانة بين ليلة وضحاها.
من كان له مشروع واتباع وقضية، لا يختار الموت في الخفاء، إلا إذا كان الصمت القسري أرحم من الاعتراف القهري أو من التصفية العلنية.

الانتحار هنا، ليس موتًا بل إعدام مموّه، تحكمه الضرورة السياسية: الرمز لا يجوز أن يبقى، لكن لا يجوز أيضًا أن يُقتل صراحة.


حين يُمحى الرمز… لا ميتًا ولا حيًا

ثم تأتي الحالة الأكثر مراوغة: حين لا يُقتل الرمز، ولا يُسجن، ولا يُشوَّه… بل يُمحى.
يُقال إنه "اعتزل"، أو "سافر"، أو "أصيب بمرض مفاجئ"، لكنه في الحقيقة نُقِل إلى حياة موازية، بهوية جديدة، في مكان مجهول.

قد يتم هذا برضاه، تحت ضغط وتهديد، أو في إطار صفقة، أو حتى بذريعة "حمايته".
لكنه في جميع الأحوال، يُغيب عن ذاكرة الناس دون جنازة ولا توديع.
يموت اسمه، ويمحى تاريخه، ويُعاد ترتيب السردية بحيث يبدو وكأنه لم يكن.

إنه محو ناعم، لكنه أكثر فتكًا من الرصاص:
يعيش الرمز… لكن ليس كرمز، بل كشخص بلا ماضٍ، بلا أثر، بلا معنى.


هذه ليست أسرارًا… بل أدوات حكم

قد تبدو هذه السيناريوهات ضربًا من الخيال، لكنها في الواقع ممارسات موثقة، ومتكررة، ومعروفة لمن يتابع بعيون مفتوحة.
برامج حماية الشهود، التصفيات المقنّعة، الإخفاء القسري، وحملات التشويه المدارة، ليست أسرارًا، بل أدوات ضمن ترسانة الأنظمة في إدارة الرأي العام ومراقبة الرموز.

السلطة لا تُدير فقط من يحكم، بل من يُسمح له بالبقاء في الذاكرة.
تعرف كيف تُحطم الأصنام، وكيف تُنزل الرموز عن منصاتها دون أن تسقط هيبتها هي.
وفي زمن السيطرة الناعمة، لم يعد يُقتل الرمز بالسكين، بل يُنسى، يُشوه، أو يُحرق بنيران لا تُرى.

الذكاء ليس في أن تُعلن الحرب، بل في أن تدفع خصمك ليعلن نهايته بنفسه.
والانتحار السياسي، في هذا السياق، ليس قرارًا ذاتيًا، بل خطة ذكية تُنفذ على مهل… باسم الحرية، أو الخطأ، أو القدر.

+
أحدث أقدم

ويجيد بعد المقال


تنويه: هذا المقال (أو المحتوى) يقدم تحليلاً إعلامياً موضوعياً، ويخلو تماماً من أي تحريض أو دعوة للعنف، ويعكس رؤية نقدية متوازنة للأحداث، مع الالتزام التام بالأطر القانونية والمعايير المهنية.