العملات الرقمية: من وراءها؟

تبدو العملات الرقمية في ظاهرها كاختراع تحرري، يقلب الطاولة على النظام المالي العالمي، ويمنح الأفراد حرية التصرف في أموالهم دون رقابة البنوك أو تدخل الحكومات. لكنها حين تُفكك نقديًا، نكتشف أنها ليست مجرد أرقام على "بلوكتشين"، بل مشروع أعمق يحمل في طياته أسئلة وجودية عن السلطة، والمراقبة، ومستقبل المال نفسه.

فمن يقف خلف العملات الرقمية؟ ومن صاغ قواعد هذه اللعبة العالمية الجديدة؟


العملات الرقمية: من الظاهر اللا مركزي إلى الباطن المُنظم

  • فكرة اللا مركزية... ولكن! : البيتكوين، بوصفه أول عملة رقمية، تم تقديمه على أنه مشروع لا مركزي بالكامل، لا يتحكم فيه بنك مركزي ولا دولة ولا شركة. لكن السؤال الذي يُغفل كثيرًا هو: من صاغ هذا النظام؟ من وضع قواعد اللعبة؟ المُبتكر الغامض "ساتوشي ناكاموتو" (وهو على الأرجح اسم مستعار لفرد أو مجموعة) اختفى بعد وضع الأسس، تاركًا خلفه نظامًا مغلقًا يحكمه بروتوكول مشفر ومعقد.
  • خوارزميات لا تُراجع؟ : التحكم بالعملة الرقمية يتم عبر برمجيات مفتوحة المصدر، لكن من يفهمها فعلًا؟ من يمتلك القدرة التقنية والمعرفة البرمجية للتدقيق في شفرة المصدر ومتابعة التحديثات؟ بمعنى آخر، هناك "طبقة تقنية نخبوية" تتحكم واقعيًا، حتى وإن لم تكن حكومة أو مؤسسة رسمية.
  • القوة الحقيقية: من يملك التعدين؟ : في العملات مثل البيتكوين، من يملك القوة الحسابية الأكبر يملك السلطة. وشركات التعدين الكبرى اليوم متمركزة في دول معينة، وتملك القدرة على التأثير في التوجهات التقنية وحتى في القرارات الخاصة بالتحديثات (مثل انقسام البلوك تشين). أي أن اللا مركزية الظاهرة تخفي مركزيات جديدة: مركزية الحوسبة، مركزية النفوذ التقني، ومركزية التمويل.
  • من المستفيد الأكبر؟ : حين ترتفع قيمة عملة رقمية ما، من المستفيد الأكبر؟ إنه أولئك الذين دخلوا في وقت مبكر. بعضهم شركات استثمار ضخمة وصناديق تحوّط عالمية (مثل BlackRock وGrayscale)، والتي بدأت تضخ أموالًا هائلة في العملات الرقمية بعد سنوات من رفضها العلني لها. هذا التحول السريع من العداء إلى الاستثمار يثير تساؤلات حول مدى "استقلال" هذه العملات عن النظام المالي العالمي الذي قيل إنها جاءت لتقويضه.
  • الهيمنة التقنية والرقمية القادمة : الصين طوّرت عملتها الرقمية المركزية (اليوان الرقمي)، والولايات المتحدة تبحث في تطوير "دولار رقمي". والسؤال: هل العملات الرقمية كانت خطوة تمهيدية لتعويد الشعوب على النقد الرقمي غير النقدي (Cashless society) تمهيدًا للرقابة الكاملة لاحقًا؟
  • إذا تم ربط الهوية الرقمية بالمحفظة الرقمية، فإننا أمام نظام مراقبة غير مسبوق.


1. النشأة الغامضة: من هو "ساتوشي" حقًا؟

جاءت عملة "بيتكوين" إلى العالم سنة 2009 من شخصية مجهولة تُدعى ساتوشي ناكاموتو، لم يظهر لها أثر حقيقي قبل ذلك، ثم اختفت لاحقًا دون أن تُعرف هويتها. غياب هذه الهوية ليس تفصيلاً عابرًا، بل هو أول خيط في غموض مُريب: هل هو فرد؟ مجموعة؟ جهاز استخبارات؟ شركة؟

والمثير أن عمله لم يكن بدائيًا أو تجريبيًا، بل كان نظامًا محكمًا شديد التعقيد والدقة من اللحظة الأولى، ما يُرجّح أنه نتاج عقول مؤسسية كبرى لا شخص فردي.

2. البلوكتشين: شفافية مزعومة أم مراقبة متقدمة؟

يُروّج للعملات الرقمية أنها مبنية على تكنولوجيا شفافة تسمى "البلوكتشين"، حيث تُسجل كل المعاملات علنًا. لكن هذه الشفافية ليست بلا ثمن، فهي تتيح تعقب كل معاملة منذ اللحظة الأولى. وفي ظل تقنيات الذكاء الاصطناعي وتحليل البيانات، يمكن ربط المحفظة الرقمية بالهوية الشخصية حتى دون الحاجة لتسجيل الاسم.

بمعنى آخر: أنت مكشوف بالكامل… لكن دون أن تدري.

3. من يتحكم فعليًا؟ النخبة التقنية المالية

رغم الادعاء باللامركزية، الواقع يُظهر أن من يملك:

  • أكبر قدر من القدرة الحاسوبية (التعدين)
  • أو من يتحكم في المحافظ والبورصات الكبرى
  • أو من يدير تحديثات البروتوكول البرمجي

هو فعليًا من يُدير اللعبة.

شركات مثل Binance، Coinbase، وBitmain ليست مجرد منصات، بل لاعبون سياسيون واقتصاديون لهم علاقات وثيقة بحكومات وشركات استثمار عالمية. فاللامركزية هنا نسبية ومُضلّلة.

4. تحوّل العملات الرقمية من مشروع تحرري إلى أداة وول ستريت

في بداياتها، نُظر للعملات الرقمية كأداة مضادة للمصارف المركزية والاحتكار المالي. لكن اليوم، تدخلت كبريات الشركات مثل:

  • BlackRock
  • JP Morgan
  • PayPal
  • Goldman Sachs

وأصبحوا أكبر المستثمرين في البيتكوين وسوق الكريبتو عمومًا. فكيف يمكن لمشروع جاء ليُسقط النظام أن يُحتضن ويُموَّل من النظام نفسه؟

الجواب واضح: جرى احتواؤه وتطويعه.

5. الوجه الخفي: العملات الرقمية كتمهيد للنقد الرقمي المركزي

بينما ينشغل الناس بمتابعة صعود العملات "البديلة"، تعمل الحكومات على إنشاء عملاتها الرقمية الرسمية (CBDC)، مثل:

  • اليوان الرقمي في الصين
  • الدولار الرقمي في أميركا
  • اليورو الرقمي في أوروبا

وهذه العملات تُدار مركزيًا بالكامل، ويمكن التحكم بها وتجميدها وتتبع أصحابها في أي لحظة.

فهل كانت العملات الرقمية مجرد بالون اختبار نفسي واجتماعي لتعويض الناس عن فِقدان النقد الورقي؟

6. تقويض السيادة النقدية للدول الصغيرة

بعض الدول التي لا تملك عملات مستقرة، أصبحت تعتمد بشكل غير مباشر على العملات الرقمية. وهنا مكمن الخطر:

  • فقدان السيطرة النقدية
  • إضعاف دور البنوك المركزية
  • خضوع الأسواق المالية للتقلبات العالمية

بل إن بعض التقارير تشير إلى أن بعض العملات المشفرة تُستخدم كسلاح اقتصادي في دول مضطربة سياسيًا، لتغذية التضخم أو تهريب الثروات.

7. التمويل الغامض والشخصيات المشبوهة

شخصيات مثل إيلون ماسك، والتي تُحرك السوق بتغريدة واحدة، أو كيانات استثمارية مجهولة تُضخّم وتُسقِط العملات بشكل مفاجئ، تطرح علامات استفهام:

  • من يُقرر ما "يُضخّم" وما "يُغرق"؟
  • هل هناك تنسيق خفي بين النخب المالية وصُنّاع المنصات؟
  • وهل نحن أمام أسواق مالية تُدار بالحيلة والتضليل الإعلامي؟

8. المعاملات المشفرة والمشاريع السوداء

العملات الرقمية تُستخدم في:

  • تجارة السلاح
  • تمويل الجماعات المسلحة
  • الأسواق السوداء (Dark Web)
  • غسيل الأموال العابرة للحدود

ومع أن البعض يستخدمها بشكل شرعي، إلا أن هذا الاستخدام الموازي يجعلها سلاحًا ذا حدّين، ويعطي مبررًا للحكومات لتقييدها وربما استبدالها كليًا بأنظمة مركزية.

9. الترويج الإعلامي المنسق

التغطية الإعلامية للعملات الرقمية تتراوح بين شيطنة ممنهجة في أوقات معينة، وتضخيم مُغالى فيه في أوقات أخرى. وهذا يُظهر وجود هندسة خطاب إعلامي لا يمكن أن تكون عشوائية.

والسؤال: من يُنسّق هذه الموجات؟ ومن يضخ المال في الحملات الإعلانية العملاقة التي تُروّج لمشاريع NFT وميتافيرس وكريبتو بلا أي قاعدة اقتصادية حقيقية؟

10. حلم التحرر أم فخ الرقمنة الشاملة؟

في النهاية، من الواضح أن العملات الرقمية فتحت بابًا جديدًا، لكنها ليست بالضرورة بابًا إلى الحرية. قد تكون:

  • أداة تحرر فردي مؤقت
  • أو مجرد مرحلة انتقالية نحو نظام مالي جديد أشد رقابة وشمولية
  • أو مسرحًا تجريبيًا لاستيعاب جيل رقمي بلا نقود ورقية، ولا خصوصية، ولا سيادة اقتصادية شخصية


الخلاصة

العملات الرقمية في ظاهرها تمثل تحررًا من النظم المالية التقليدية، لكنها في باطنها تحمل احتمالات السيطرة الجديدة، لا من الحكومات فقط، بل من تحالفات تكنولوجية ـ مالية ـ معلوماتية.
وراء العملات الرقمية تقف شبكات من العقول البرمجية، والمصالح الرأسمالية، والنخب التكنولوجية العالمية. ليست الحكومات وحدها هي من يخشى هذا النظام، بل ربما كانت هي من يقوده سرًا نحو مشروع أكبر:

النقد الرقمي المركزي، والهوية المالية الشاملة، ومجتمع بلا نقد، بلا خصوصية، بلا حرية مالية حقيقية.

فمن يملك البيانات، يملك المال، ومن يملك المال... يملك السلطة.

أحدث أقدم
🏠