
لكن ما بين الهيمنة الغربية وهيمنة الشرق فارقٌ جوهري لا يُمكن تجاهله:
تمرد الجغرافيا: حين يتآكل المركز ويعلو الهامش
لم تعد الشعوب تنتظر الاستقلال من مستعمر أوروبي مباشر، بل من وكلائه المحليين، ومن شبكات النفوذ العميقة التي خلّفها المستعمر على شكل أنظمة، واقتصادات تابعة، وثقافات مروّضة.
وفي هذا المشهد الرمادي، تتسلل روسيا والصين، لا لتقود ثورات تحرر، بل لتُدير تمردات جيوسياسية بأدوات جديدة، وتُقدّم بدائل لا تُحرّر بالضرورة، بل تُنافس على الريادة.
روسيا: بعث القيصرية على أنقاض الناتو
تتحرك روسيا باعتبارها وريثة لإمبراطورية لم تُشفَ بعد من جراح التفكك. تمدّ أذرعها حيث تتراجع الهيمنة الغربية، في مالي وليبيا والسودان وسوريا، بل وحتى في أميركا اللاتينية.
تدعم موسكو الأنظمة المناهضة للغرب، وتموّل الميليشيات الخارجة عن وصايته، لا من باب الالتزام الأخلاقي أو القيمي، بل كأوراق ضغط، ووسائل إرباك.
وهي في ذلك تُعيد إنتاج نمط الهيمنة لكن بلغة بديلة، تستثمر في "غضب الهامش" لتُناور به المركز، وفي "تمرد الأطراف" لتُساوم به على طاولة الكبار.
الصين: احتلال بلا جنود، وتنمية بلا وعظ
أما الصين، فهي تلعب لعبة مختلفة. لا تدعم الانقلابات، بل تبني الجسور والموانئ. لا تُسلّح الحركات المسلحة، بل تُغرق الدول بالقروض والمشاريع.
لكن هذا لا يعني أنها فاعل خير، بل قوة صاعدة تعرف كيف تُغري الأنظمة دون أن تُحرجها، وكيف تُسيطر دون أن تُثير العداء.
والأهم، أن هيمنتها، على خلاف الهيمنة الغربية، تقوم على الوعد بالتنمية. ففي أفريقيا وآسيا، لا تُلقي محاضرات عن حقوق الإنسان، ولا تُشترط إصلاحات نيوليبرالية تُجوّع الشعوب، بل تعرض تمويلًا فوريًا مقابل تعاون طويل الأمد، يكون غالبًا في صالحها، لكنه لا يُفقر الطرف الآخر تمامًا كما تفعل المؤسسات الغربية.
من الاستغلال إلى التمكين النسبي: مقارنة جوهرية
الغرب لم يكتفِ بسرقة خيرات أفريقيا، بل فرض شروطًا مهينة لإعادة تدوير أرباح تلك السرقة على شكل "مساعدات مشروطة"، تُعيد إنتاج الفقر وتمنع أي نهوض حقيقي.
أما الصين، فهي وإن اشترت الولاء السياسي بالقروض، إلا أنها قدّمت بنية تحتية، وسمحت ببعض مظاهر النمو، دون ابتزاز سياسي مباشر أو استعلاء ثقافي موروث.
ولعل هذا الفارق هو ما يجعل شعوبًا كثيرة ترى في بكين بديلاً أقل سوءًا، أو حتى شريكًا واقعيًا.
هل هو تمرد حقيقي أم إعادة توزيع للهيمنة؟
الكثير من الحركات السياسية والعسكرية التي تدعمها روسيا أو تتعامل معها الصين تُقدّم نفسها كحركات تحرر، أو كأنظمة متمردة على النظام العالمي الظالم.
لكن الواقع يُظهر أن أغلبها ليست سوى أدوات في لعبة الكبار. فالاستقلال الشكلي يُخفي ارتهانًا عميقًا، والشعارات الثورية تُستخدم كقشرة تُخفي تحالفات مصلحية باردة.
أفريقيا نموذجًا: بين المطرقة الغربية والسندان الشرقي
أفريقيا التي نُهبت قرونًا باسم "التقدّم"، تجد نفسها اليوم بين وجهين للهيمنة:
وجه غربي يُجيد التفكيك لكنه لا يُقدّم بدائل، ووجه شرقي يُجيد البناء لكنه يُمسك بالمفاتيح.
فهل نُفضّل النهب المغطى بشعارات الديمقراطية، أم الارتهان المغلف بمشاريع تنموية؟
الإجابة ليست سهلة، لكن المؤكد أن الشعوب تُركت لتختار بين السيئ والأسوأ، لا بين الاستقلال والتبعية.
هل ثمة خيار ثالث؟
التحرر لا يعني الخروج من عباءة الغرب للدخول في جيب الشرق، بل أن تمتلك قرارك وتُدير مصالحك.
لكن هذا يتطلب أن تنهض الشعوب، وتستعيد الوعي، وتكسر منطق التبعية، وتُدرك أن الهيمنة لا تُكسر إلا بإعادة بناء الداخل، لا بالرهان على الخارج.
الصيد في الماء العكر سيبقى مستمرًا، ما دامت المياه عكرة من الداخل. أما إذا صفت، فإن الطامعين، مهما كانوا، لن يجدوا فيها موطئ شبكة.