الوصاية على الله: حين يتحدث الحاكم باسم الدين والدين باسم الحاكم

في لحظات الخوف الجماعي أو الانهيار القيمي، ينهض صوت غليظ يصرخ من فوق المنبر أو من خلف الميكروفون: "احذروا، من يعارض الحاكم فقد عارض الله!". هكذا تُنتزع الألوهية من السماء وتُسلّم مفاتيحها لوليّ الأمر. لا لأنّ الحاكم نبيّ، ولا لأنّ السلطان مُلهم، بل لأنّ الدين – في نسخته الرسمية – بات أداة فوق رؤوس العباد، لا رحمةً في قلوبهم.

هذا المقال ليس عن الدين، بل عن الذين نصّبوا أنفسهم أوصياء عليه، وعن العلاقة المحرّفة بين السلطة والشرعية، حين يتحوّل الخطاب الإلهي إلى ختم حكومي، وتُصبح الفتوى تصريحًا أمنيًا، ويصير الله حارسًا شخصيًا للعرش.


حين جعلوا الله موظفًا في وزارة الداخلية

في مشهد سريالي، يعتلي رجل دين منصة إعلامية ليدافع عن ظلمٍ صريح ارتكبه النظام، متذرّعًا بأنّ "ولاة الأمور" مسؤولون أمام الله، لا أمام الشعب. بهذا المنطق، يصبح أيّ نقد للحاكم خيانة، وأيّ مطالبة بالعدل تمرّدًا، ويغدو الصمت فضيلة و"السمع والطاعة" قُربة.

لكن المدهش ليس في المضمون، بل في توقيت الوعظ: لا تسمع هذه الخطب إلا حين يشتدّ النقد الشعبي أو يُطالب الناس بحقوقهم. وكأن الله لا يُستدعى إلا لتسكين الألم، لا لرفع الظلم.


من نبيٍّ يُحاسَب إلى سلطانٍ لا يُسأل

في زمن النبوة، كانت الآية تنزل تعاتب الرسول ﷺ. وكان الصحابة يناقشون، ويختلفون، ويحتكمون. أما في زمن "الوصاية على الله"، فقد صعد السلطان منزلةً فوق الأنبياء: لا يُسأل عمّا يفعل، ولا يُحاسَب، ولا يُعارَض، لأنه – حسب الرواية الرسمية – ظلّ الله في الأرض.

أيّ سقطة معرفية أعظم من هذه؟ أن يُجعل الحاكم شريكًا لله في الطاعة؟ وأن يُستبدل مفهوم الشورى بالنفاق، والنقد بالخط الأحمر، والفتوى ببلاغٍ أمني؟


الدين كقيد لا كرسالة

تحوّل الدين – في أيدي بعض الأنظمة – من بوصلة للعدل إلى قيد على الوعي. يُنتقى من النصوص ما يُشرعن الواقع، ويُقصى منها ما يفضح الطغيان. الفقهاء الرسميون لا يُعلّمون الناس كيف يتحررون من الذنوب، بل كيف يُبرّرون الذلّ.

فالحاكم الذي يمنع الناس من قول الحق، يُفتي له العلماء بأن السكوت حكمة. والحاكم الذي ينهب ثروات البلاد، يُبرَّر فعله بأنه "ابتلاء". والحاكم الذي يكمّم الصحافة، يمدحونه بأنه يحفظ الأمن.

وهكذا، تتحوّل الفتوى من ضوء في طريق الحائرين إلى سوط في يد الجلادين.


حين يهرب الدين من خطب الجمعة

صار كثير من الخطب دعاية رسمية، لا دعوة ربانية. ترى المصلّي يخرج من المسجد وهو يشعر بثقل أكبر، لأن منابر الرحمة تحوّلت إلى منصّات تهديد، ولأن الله – في هذه الخطب – لم يُقدَّم كربٍّ رحيم، بل كأداة سلطة تهدّد وتتوعد خصوم الحاكم.

لكن الله لا يُحب الظالمين. والقرآن ليس ديوان طاعة، بل كتاب تحرر. والأنبياء لم يمدحوا الملوك، بل واجهوهم. والحق لا يُراد به البقاء على العرش، بل النجاة من النار.


خاتمة: استعادة الدين من أيدي السلاطين

ليس لله أوصياء. وليس بين العبد وربّه واسطة. وما جاء الدين ليكون سُلّمًا للسلطة، بل ميزانًا على السلطة.
استعادة الدين من قبضة الحكام ليست تمرّدًا على النظام، بل وفاءً للأمانة. والسكوت على من شوّهوا الدين باسم الدولة، خيانة لرسالة الأنبياء.

حين يعود الله إلى قلوب الناس، يُسقطون أوثان الطاعة العمياء، ويفرقون بين من يُطاع لأنه عادل، ومن يُتملَّق لأنه جائر.

أحدث أقدم
🏠