مكملة حضارات باقية: العرب: حين تكون الأمة رسالة.. لا عروبة

ليسوا الأكثر عددًا، ولا الأسبق حضارة، ولا الأغزر إنتاجًا ماديًا عبر التاريخ. ومع ذلك، ظلّ اسم العرب حاضرًا في قلب كل حدثٍ غيّر وجه العالم. لماذا؟... لأنهم - حين كانوا عربًا بحق - لم يكونوا "قومًا" بل رُسُل رسالة
لقد دخلوا التاريخ من بوابة لم تفتح لغيرهم: بوابة الكلمة التي حرّرت، لا السيف الذي استعمر.
وحين انتقلوا من مجرد قبائل متنافرة إلى أمة ناطقة بوحي السماء، تغيّر وجه الأرض.
العروبة الحاملة للرسالة، لا العرق المتفاخر..


العروبة التي صنعت حضارة الإسلام ليست لونًا للبشرة، ولا لهجة للسان،
بل كانت وسيلةً لا غاية، ووعاءً لا صنمًا.

ففي زمن النبوة، لم يُرفع العربي لأنه عربي، بل رُفع لأنه صار جزءًا من أمة تؤمن أن:

"لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى"

وكانت العروبة آنذاك لغة رسالة، ولسان قرآن، ومفردة تحرير،
وليست "قومية" تغني النشيد وتُقصي غيرها.

وحين نُزعت الرسالة من العروبة، سقطت، وتحولت إلى فراغ متعجرف يتغذى على الأطلال،
فلم تعد تفتح الأرض، بل تُغلق على نفسها في دوائر الخطابة.


العروبة... دور في أمة لا إمبراطورية

العرب في زمن الرسالة لم يقودوا باسم الجنس، بل باسم العدل.
فتحوا القلوب قبل الحصون، ونقلوا حضارة لم تكن لهم وحدهم، بل للأمم كلها.

  • كانت بغداد تعج بالفرس والترك والأمازيغ.
  • وكانت الأندلس منارة فيها العربي والأندلسي والمولَّد.
  • وكان فقهاء الأمة من خراسان وبلاد ما وراء النهر أكثر من أهل نجد واليمن.

لكن الجميع نطق بلغة واحدة: العربية،
وليس لأن العرب فرضوها، بل لأنها كانت لغة الرسالة، والمَعنى، والنهوض.


من سقط العروبة إلى انتكاسة الرسالة

حين نُزعت الرسالة من العرب، سقطوا سقوطًا مضاعفًا:

  • لأنهم لم يعودوا "قادة مشروع"، ولا حتى "مشاركين فيه".
  • ولأن قومياتهم تحولت إلى هويات سياسية مستوردة، غربية الطرح، شرقية التوظيف.
  • ولأن فخرهم صار في لهجاتهم وشِعرهم وجامعاتهم، لا في عدالتهم، ورؤيتهم، ومشروعهم.

فلمّا سقطت الخلافة، لم تُورّث كحضارة مشتركة، بل قُطّعت كما تقطّع الجثة،
وصار العربيُّ فيها مجرد موظف في حدود سايكس بيكو.

العرب اليوم: ما بين دور غائب، وهوية مُستبدلة

يُسأل العرب اليوم: أين أنتم من الحضارة؟ من التقدم؟ من الوعي؟
والجواب لا يُستخرج من ماضي الشعراء ولا من صفقات السلاح،
بل من سؤال أعمق: هل لا زلتم أمةً حاملة لرسالة، أم صرتم شعوبًا تنتمي لخرائط؟

فالأمة العربية لا تنهض لأنها عربية، بل تنهض إذا عادت أمةً رسالية.

  • مشروعها الإنسان، لا الحدود.
  • عدالتها أسبق من لغتها.
  • وحضارتها لا تُقاس بما تستهلكه، بل بما تعطيه من معنى.


الخلاصة: من عِرقٍ إلى أفق

العروبة ليست امتيازًا بيولوجيًا، ولا شهادة ميلاد،
بل نُطقٌ بلغة الرسالة، وقيامٌ بواجب الدور، ومشاركةٌ في أمةٍ تتجاوز حدودها.

ولن تُنقذ العرب مؤتمرات ولا قمم،
بل يُنقذهم أن يعودوا لذواتهم كصوتٍ لحضارة، لا كظلٍّ لأمةٍ اندثرت.

لقد كانوا قادة حين حملوا القرآن،
وسُحِقوا حين حملوا شعارات القومية الفارغة.

ولعل أول خطوة نحو الخروج من التيه، أن يتذكّروا أنهم ليسوا قبائل تشتري الأسلحة،
بل أمةً خُلقت لتصنع المعنى.


سلسلة: الحضارات الباقية: كيف تدفن الشعوب في التاريخ وتنجو الافكار

+
أحدث أقدم

ويجيد بعد المقال


تنويه: هذا المقال (أو المحتوى) يقدم تحليلاً إعلامياً موضوعياً، ويخلو تماماً من أي تحريض أو دعوة للعنف، ويعكس رؤية نقدية متوازنة للأحداث، مع الالتزام التام بالأطر القانونية والمعايير المهنية.