أبطال البحر المنسيّون: حين قاوم المسلمون بين الأمواج والجزر

في الذاكرة الإسلامية، يبدو البحر أحيانًا مجرد فراغ أزرق يحدُّ البرّ، أو منفذًا لهروبٍ جماعي أو نفيٍ قسري. لكن خلف هذا التصوّر، تقبع صفحات مجيدة، حيث لم يكن البحر مَهربًا بل ميدانًا. ساحة صاخبة بالصراع، والمقاومة، والانتصار… والخذلان أيضًا.
البحر في التاريخ ليس ماءً، بل طريق. طريقٌ للغزاة، وطريقٌ للدعوة، وطريقٌ للتجارة، وطريقٌ للنجاة. وبين هذه الأمواج، نشأ أبطالٌ مسلمون لا تُخلّدهم الذاكرة كما يجب، لأنهم لم يكونوا على ظهور الخيل، بل على ظهور السفن. لا في كثبان الرمل، بل في أعالي المحيطات.

لقد أنجبت الأمة الإسلامية قادة بحريين ومجاهدين في الجزر، لم يُعرفوا فقط بشجاعتهم، بل ببصيرتهم الاستراتيجية. رجال خاضوا معارك طويلة ضد الأساطيل الغربية، ووقفوا حُراسًا للبوابات البحرية من المغرب إلى الأرخبيل الإندونيسي، دون أن تخلّدهم كتب التاريخ الرسمية.
لقد خاضوا حروبهم في ساحة تغافل عنها المؤرخون، فصُوّروا قراصنة، بينما كانوا قادة. ووُصفوا كمتمردين، بينما كانوا حماة السيادة البحرية.

البحر: ساحة المواجهة المنسية

منذ الحروب الصليبية، أدرك الغرب أن السيطرة على البحر تعني السيطرة على التجارة والدعوة والجغرافيا. فأنشأ أساطيل ضخمة، واحتل الجزر، وقطع طرق المسلمين في المتوسط والمحيط الهندي. وكان لا بد من ردٍّ بحريٍّ يوازي التهديد.

هنا ظهر القادة المسلمون الذين أعادوا تعريف البحر، ليس كحدّ للنفوذ، بل كوسيلة لبسطه. قادوا سفنهم في معارك شرسة، أنقذوا الأندلسيين من المحاكم، حرروا الجزر، ودافعوا عن السواحل الإسلامية شرقًا وغربًا. لكن كتب التاريخ لم تُنصفهم، وصنعت صورة مزيفة ترى البحر ملكًا للغزاة، لا للمجاهدين.


أسماء من أبطال البحر:

  1. عروج بربروس (1474–1518م): قائد بحري عثماني من أصل أندلسي، أنقذ آلاف المسلمين من محاكم التفتيش الإسبانية، وحرر الجزائر من الاحتلال الإسباني، واستُشهد في إحدى المعارك ضد الصليبيين.
  2. خير الدين بربروس (1478–1546م): شقيق عروج بربروس، أمير البحار في الدولة العثمانية، تولّى قيادة الأسطول العثماني في معارك شرسة ضد التحالفات الأوروبية، وأسس السيادة البحرية العثمانية في المتوسط.
  3. درغوث باشا (1485–1565م): مجاهد بحري وقائد عثماني من أصل تونسي، خاض معارك بحرية ضد فرسان مالطا والصليبيين، فرسان القديس يوحنا. تولّى ولاية طرابلس عام 1551م، وصدّ الهجمات الصليبية على الشمال الأفريقي. قُتل في معركة مالطا 1565م وهو على الخطوط الأمامية.
  4. لاكسامانا تون عبد الجمال (نشط بين 1500–1511م): أمير بحر من سلطنة ملقا في ماليزيا، قاد دفاعًا بطوليًا ضد الغزو البرتغالي بقيادة ألفونسو دي ألبوكيرك. صمدت قواته رغم الفارق الكبير في التسليح، وسجّل اسمه في تاريخ الجهاد الملايوي.
  5. السلطان حسن الدين (1631–1670م): سلطان ماكاسار (سولاويسي – إندونيسيا)، قاوم الاحتلال الهولندي لعقد كامل، وقاد معارك بحرية شرسة ضد شركة الهند الشرقية الهولندية حتى استُشهد، ولقّبه خصومه بـ"ديك ماكاسار" لشجاعته النادرة.
  6. راجح بن مرجان (نشط في النصف الثاني من القرن 17م): قائد بحري من زنجبار، شارك في طرد البرتغاليين من الساحل الشرقي لأفريقيا، وتحالف مع سلطنة عمان لتحرير ممباسا وكيلوا، وبقي اسمه حيًا في الذاكرة الشفوية رغم إهماله في التدوين الرسمي.
  7. يوسف بن أحمد الكبير (1735–1793م) – سلطان زنجبار : عُماني الأصل، حرّر زنجبار من البرتغاليين، وأسّس سلطنة امتدت من تنزانيا إلى موزمبيق. أدرك مبكرًا أن الجزر بوابات للسيطرة، فجعل منها قلاعًا للمقاومة البحرية.
  8. مير علي بك (توفي 1587م) – درع اليمن البحري: قائد أسطول عثماني من أصل ألباني، قاد حملات بحرية لتحرير الموانئ من البرتغاليين، وأمّن البحر الأحمر من عدن إلى مقديشو. كانت استراتيجيته تجمع بين الحيلة العسكرية والدراية الجغرافية، لكنه غاب عن الذاكرة كما غاب عن المناهج.
  9. رجب ريس (توفي 1565م) – فارس المحيط الهندي: قائد أسطول عثماني آخر، قاتل على سواحل الهند الشرقية، وواجه الاحتكار البرتغالي للتجارة. استُشهد في معركة بحرية قرب جزيرة سقطرى، لكنه ظل مجهول الاسم في خرائط الشرف.


لماذا نُسي هؤلاء الأبطال؟

لأنهم قاتلوا في ميدان لم يُفهم كفاية، فاختزلهم المؤرخون كقراصنة أو محاربين هامشيين.

لأن أغلب المؤرخات الرسمية انشغلت بالفتوحات البرية، وقلّ من وثّق المعارك البحرية خارج المجال العثماني.

ولأن الثقافة العربية – في أغلبها – تحوّلت إلى ثقافة برّية مغلقة، ترى في البحر تهديدًا أكثر من كونه ميدانًا للكرامة.

البحر ليس للغزاة فقط

هؤلاء القادة كانوا أكثر وعيًا بالتحولات العالمية من كثير من حكام البر. أدركوا مبكرًا أن السيطرة البحرية تعني السيادة السياسية والثقافية، وأن الجزر ليست ترفًا جغرافيًا بل معاقل استراتيجية.

قاوموا بأساطيل صغيرة قوىً كبرى تسعى لابتلاع الموانئ والمسالك، وتركوا خلفهم تاريخًا ما يزال في أعماق النسيان.

قد لا توجد صورهم على العملات، ولا تماثيل لهم في الساحات، لكنهم يستحقون أن تُعاد قراءتهم:
لا كقراصنة، بل كروّاد مقاومة.
لا كمجهولين، بل كعنوان لمرحلة بحرية في حضارة الإسلام.

أحدث أقدم
🏠