سطور مضيئة: خير الدين بربروسا: أمير البحار الذي أفزع أوروبا

في عالمٍ تتعمد فيه السرديات الغربية أن تحصر البطولة الإسلامية في صراعات محلية أو شخصيات متمردة، تظل سيرة خير الدين بربروسا واحدة من تلك الصفحات التي تم تغييبها أو تشويهها عمدًا. فهل كان بربروسا مجرد قرصان عثماني كما تُصوّره كتب الغرب، أم كان أحد أعمدة السيادة البحرية الإسلامية في زمن بدأ فيه البحر يُكتب بالحروف اللاتينية؟

هذه المقالة لا تحتفي بالرجل لمجرد بطولاته، بل تسعى لتفكيك رمزيته ودلالاته في صراع الهيمنة بين الشرق المسلم والغرب الصاعد، حيث تحوّلت المعارك من اليابسة إلى البحر، ومن الجيوش إلى الأساطيل.


من جزيرة ليسبوس إلى عرش البحر الأبيض المتوسط

اسمه الحقيقي خضر بن يعقوب، وُلد في جزيرة "مدلّي" (ليسبوس حاليًا) في بحر إيجه أواخر القرن الخامس عشر، ونشأ في بيئة بحرية صِرفة. لكنه لم يكن وحده في هذا المسار، بل برز إلى جانبه شقيقه عروج، الذي سيغدو فيما بعد أحد أبرز الأسماء في التاريخ البحري العثماني، قبل أن يلقى حتفه في الجزائر. بعد استشهاد عروج، تولى خضر قيادة الأسطول، ليمنحه السلطان العثماني لقب "خير الدين"، ويُعرف في أوروبا باسم بارباروسا (اللحية الحمراء).

لكن المفارقة هنا ليست في تحوله من بحّار إلى أمير أسطول، بل في تحوّل البحر نفسه إلى مسرح للسيادة الإسلامية، بعد أن كانت المعارك التقليدية تحتكر المشهد البري.

بربروسا والجزائر: التحرير بالأسطول لا بالسيف وحده

حين دخل بربروسا الجزائر بطلب من أهلها لدفع الخطر الإسباني، لم يكن هذا تدخلًا خارجيًا كما تُصوّره النظرة القومية الضيقة اليوم، بل كان استجابة طبيعية لنداء استغاثة أطلقته شعوب مغاربية وجدت نفسها بين مطرقة الإسبان وسندان المتعاونين المحليين.

بربروسا لم يُحكم الجزائر كغريب، بل كمُحرّر ومُمثّل للخلافة العثمانية التي رأت في شمال إفريقيا امتدادًا لدار الإسلام لا مستعمرة. كان هذا التحرك يعكس رؤية وحدة الأمة، التي لم تكن آنذاك شعارًا عاطفيًا، بل استراتيجية جيوسياسية في مواجهة الحصار الغربي المتسارع.

المعركة الرمزية في البحر: بريفيزا وكسْر الغطرسة الأوروبية

في عام 1538، واجه خير الدين بربروسا أحد أعظم التحديات في حياته العسكرية، حين تصدى لأسطول تحالفت فيه قوى أوروبا الكاثوليكية (البندقية، جنوة، إسبانيا، والبابوية)، وذلك في معركة بريفيزا الشهيرة. رغم تفوقهم العددي والتقني، خرج بربروسا منتصرًا نصرًا ساحقًا، حتى لقّب منذ ذلك الحين بـ"سيد البحر الأبيض المتوسط".

لكن الانتصار لم يكن عسكريًا فقط، بل حضاريًا ورمزيًا؛ فقد ثبّت هيبة الدولة العثمانية في البحر، وكسر صورة "التفوق المسيحي المحتوم"، وأثبت أن المشروع الإسلامي لا يزال قادرًا على المبادرة والردع في آنٍ واحد.

القرصنة أم الجهاد البحري؟ تفكيك السردية الاستعمارية

لأسباب مفهومة، تُصوّر معظم المصادر الغربية خير الدين بربروسا كقرصان لا أكثر، وتضعه في خانة الفوضويين الخارجين عن النظام. هذا النمط من التشويه ليس جديدًا، بل هو جزء من استراتيجية استعمارية تعمد إلى "تشويه المقاوم وتحسين صورة الغازي".

والسؤال هنا: ما الفارق بين القرصنة والجهاد البحري؟
القرصنة عمل فردي يبحث عن الغنيمة بلا هدف سياسي أو أخلاقي، أما ما فعله بربروسا فكان جزءًا من مشروع دفاعي متكامل لحماية أراضي المسلمين، وتحرير شعوبهم، ومواجهة التوسع الاستعماري الأوروبي. لقد كانت أعماله منظمة، برعاية دولة، ضمن جيش نظامي، وبموافقة شرعية. فكيف يُساوى هذا بالقرصنة؟

الدلالة السياسية: ماذا يعني بربروسا اليوم؟

حين نستعرض سيرة خير الدين بربروسا اليوم، فليس الهدف تمجيد شخصية تاريخية فقط، بل إعادة قراءة المرحلة التي مثّلها. بربروسا كان نموذجًا للقائد المسلم القادر على المزج بين الشجاعة الميدانية والرؤية السياسية، بين الإيمان بالمشروع الحضاري والقدرة على تجسيده.

غيابه اليوم ليس فقط غياب رجل، بل غياب فكرة. فهل نملك اليوم مشروعًا بحجم المشروع العثماني البحري؟ هل لدينا قادة يفكرون بأفق أمة، لا بحدود دولة؟ وهل ما زال البحر ميدانًا للمسلمين، أم غرقنا في برّ الشعارات؟

خلاصة

خير الدين بربروسا لم يكن مجرد أمير للبحار، بل كان أميرًا لفكرة السيادة الإسلامية حين كانت تُبحر في كل الاتجاهات. شخصيته ليست فقط درسًا في الشجاعة، بل في الرؤية والقيادة والتحرر من القُطريات الضيقة. وربما ما يُخيف الغرب في أمثال بربروسا ليس قوتهم، بل مشروعهم… ذاك الذي يُعيد ترتيب العالم لا وفق مصالحه، بل وفق قيمه.

سلسلة: سطور مضيئة: صنعوا المجد وغابت عنهم الرواية

+
أحدث أقدم

ويجيد بعد المقال


تنويه: هذا المقال (أو المحتوى) يقدم تحليلاً إعلامياً موضوعياً، ويخلو تماماً من أي تحريض أو دعوة للعنف، ويعكس رؤية نقدية متوازنة للأحداث، مع الالتزام التام بالأطر القانونية والمعايير المهنية.