تحت خط الفقر.. وفوق خط الغنى

حين تتبدّل القيم بين القاع والقمة
في أرض بعيدة، لا تُرسم على خرائط الجغرافيا بل تُحفر على خرائط القلوب، عاشت فئتان من الناس في عالمين لا يلتقيان. بينهما خطّ غير مرئي، لكنه كان كالسيف القاطع. أسموه "الخط الفاصل".
من الجهة السفلى، عاش قوم السُفليّين، تحت ما سمّاه الحكماء "خط الفقر". لا يملكون كثيرًا، لكنّهم عرفوا قيمة القليل. الخبز عندهم وليمة، والكلمة الطيبة رأس مال. إذا ضحك أحدهم، ضحكت القلوب من حوله، لأنهم يعرفون أن الضحك في القاع لا يُهدى إلا بعد وجع.


ومن الجهة العليا، سكن قوم العلويّين، فوق ما نادوه بـ"خط الغنى". كل شيء عندهم كثير، وفائض، حتى المشاعر. يملكون الوقت لكن لا يشعرون به، ويملكون المال لكن لا يكفيهم، ويملكون كل شيء إلا الرغبة في الاكتفاء.

بين القومين، وقف رجلٌ غريب، لم يكن فقيرًا تمامًا ولا غنيًا بالكامل. اسمه كان يُهمَس ولا يُنطَق: العارف. قال يومًا في سوق الكلام:

"القاع والغنى ليسا موطنين بل حالتين...
ففي القاع تُصاغ النفوس بالنقص، وفي القمة تُمتحن بالفيض.
من لم يُهذّب قلبه في الفقر، سيفسده الغنى.
ومن لم يُربِّ نفسه على المعنى، سيضلّ حين تُغريه المظاهر."

ضحك القوم من حكمته، لكنّ الزمان لم يضحك.


مرّت الأعوام، وجاع السُفليون أكثر، لكنّهم صاروا أكثر ترابطًا، يشدّ أحدهم الآخر، يتقاسمون الدمع والملح. بينما ازداد العلويّون ترفًا، لكنّهم صاروا غرباء داخل قصورهم، يأكلون وحدهم، ويبكون سرًا من وفرة لا تُشبع.


وفي إحدى الليالي، أُطفئت الأنوار فجأة. انقطع التيار عن الأرض كلها. 
حينها، لم يتبقَّ سوى ما في القلوب.

فإذا بالسفليّين يضيئون المكان بالحبّ والتكاتف، يروون القصص، يضحكون، 
ويتقاسمون الظلمة كما كانوا يتقاسمون الفجر.

أما العلويّون، فقد فقدوا كل شيء، 
لأنّ ثروتهم كانت في الخارج فقط، لا في الداخل.

وهكذا، تحوّل الخطّ الفاصل إلى مرآة. لم يعد يعني المال، 
بل يعني الفرق بين من يملك الأشياء، ومن تملكه الأشياء.
أحدث أقدم
🏠