المالديف: من الإسلام المبكر إلى الغرق المرتقب

وسط المحيط الهندي، تمتد جزر صغيرة مرجانية كأنها حبّات لؤلؤ متناثرة على صفحة الماء، تُعرف اليوم باسم "المالديف". لكن خلف هذا الجمال الهادئ، تختبئ قصة طويلة من التحولات الدينية والسياسية، ومن الصراع مع الاستعمار إلى التهديد الوجودي بالغرق.

هذه الدولة الإسلامية التي عرفت الإسلام منذ القرن الثاني عشر، والتي قاومت القوى الأوروبية واحتفظت بهويتها، تجد نفسها اليوم في مفارقة صارخة: تاريخٌ طويل من الصمود، ومستقبلٌ قد يُبتلع بالكامل تحت الأمواج.


فكيف نشأت المالديف؟ وكيف تحوّلت من بوذية إلى إسلام؟ ولماذا تفكّر اليوم بشراء أرض خارج حدودها؟ إليك القصة الكاملة من زاوية تحليلية.


1. الجغرافيا قبل التاريخ: موقع استراتيجي وبدايات غامضة

تتكون المالديف من أكثر من ألف جزيرة مرجانية صغيرة، منتشرة في شكل سلاسل حلقية (Atolls) جنوبي سريلانكا والهند، على طريق الملاحة القديم في المحيط الهندي. هذا الموقع جعلها محط أنظار البحارة والتجار من العرب والهنود والفرس منذ قرون.

رغم غياب التوثيق الدقيق لبداية الاستيطان البشري، إلا أن الأرجح أن المالديف سكنها رُحّل وصيادون من شبه القارة الهندية وسريلانكا، وقد تطورت فيها حياة مجتمعية بدائية تعتمد على صيد الأسماك والملح والتجارة البحرية البسيطة.

2. ما قبل الإسلام: عبور ثقافات متعددة

قبل دخول الإسلام، كانت المالديف تحت تأثير بوذي قوي، خصوصًا من الهند وسريلانكا. وتشير الآثار القديمة إلى أن البوذية كانت الديانة السائدة لعدة قرون، وقد انتشرت فيها المعابد والأيقونات والرموز الروحية البوذية.

كما تأثرت المالديف بالفكر الهندوسي والديانات المحلية، وكانت تخضع لنظام زعامات محلية أشبه بسلطنات صغيرة، دون وحدة سياسية واضحة.

3. دخول الإسلام: التحول الجذري

كان عام 1153م نقطة تحول فارقة في تاريخ البلاد، إذ اعتنق سلطان المالديف الإسلام على يد داعية من المغرب أو اليمن، يُعرف في بعض الروايات باسم "يوسف البربري" أو "أبو البركات البربري".

ومنذ ذلك الحين، تحوّلت المالديف إلى سلطنة إسلامية، وأصبحت تدين بالمذهب الشافعي، وربطها الإسلام بالعالم العربي الإسلامي، خصوصًا اليمن وعمان. لم يكن هذا التحول دينيًا فقط، بل أعاد تشكيل هوية الدولة، وبنى حولها شرعية سياسية وروحية متصلة بالخلافة الإسلامية.

4. النفوذ الاستعماري: بين البرتغاليين والبريطانيين

في القرن السادس عشر، وقعت المالديف تحت الاحتلال البرتغالي (1558–1573)، لكن السكان تمردوا وطردوهم بقيادة زعيم شعبي.

لاحقًا، دخلت البلاد تحت نفوذ سلطنة كاليكوت الهندية، ثم تبعت النفوذ الهولندي في سريلانكا. وفي القرن التاسع عشر، وُضعت المالديف تحت الحماية البريطانية عام 1887، لكنها احتفظت بنظام الحكم السلطاني الداخلي، ضمن إطار الهيمنة الاستعمارية البريطانية على المحيط الهندي.

5. الاستقلال وتحوّل النظام

  • حصلت المالديف على استقلالها الكامل من بريطانيا في 1965.
  • وبعد ثلاث سنوات فقط، أُلغي النظام الملكي، وأُعلنت الجمهورية عام 1968.
  • دخلت البلاد في مرحلة من الحكم الفردي الطويل، تولاها الرئيس مأمون عبد القيوم حتى 2008، ثم بدأت مرحلة انتقالية نحو ديمقراطية تعددية هشة، تخللتها انقلابات وأزمات داخلية.

6. هوية ثقافية متميزة

رغم قربها الجغرافي من الهند وسريلانكا، إلا أن المالديف طورت هوية لغوية وثقافية خاصة.
فاللغة الرسمية هي "الديفيهي"، وهي لغة مشتقة من السنهالية القديمة، لكنها كُتبت بخط يُدعى "ثانا"، وهو مزيج فريد بين الحروف العربية والسنهالية.

هذا التزاوج اللغوي يعكس موقع المالديف عند تقاطع حضاري بين الهندو-بوذية من جهة، والعربية الإسلامية من جهة أخرى، وهو ما يجعل هويتها مزيجًا معقدًا من الشرقين.

7. بين الجنة والغرق: تهديد وجودي وصمت عالمي

رغم ما تُروّج له وسائل الإعلام من صور عن المالديف كـ"جنة استوائية"، إلا أن هذه الجزر تواجه خطرًا وجوديًا متسارعًا بسبب ارتفاع منسوب مياه البحر الناتج عن تغيّر المناخ. فمعظم أراضي المالديف لا ترتفع أكثر من مترين عن سطح البحر، ما يجعلها عرضة للغرق الكامل خلال العقود القادمة.

وقد بدأت الحكومات المتعاقبة التفكير في حلول جذرية وخارجة عن المألوف، منها:

  • شراء أراضٍ في دول أخرى (مثل الهند أو أستراليا) لاستيعاب السكان في حال الغرق.
  • بناء مدن عائمة بتقنيات هندسية متقدمة تعوم فوق الماء.

هذه السيناريوهات، رغم غرابتها، تعبّر عن معاناة صامتة لدولة صغيرة لا تملك أدوات الضغط في النظام الدولي، لكنها تواجه خطر الزوال التام بسبب قرارات صناعية وسياسات بيئية اتخذها الآخرون.

وهكذا، تقف المالديف اليوم على حافة التاريخ والجغرافيا: دولة بدأت من أعماق البحر، وتهددها أمواجه اليوم من جديد، في تكرار ساخر لدورة الوجود.

خاتمة: مفارقة دولة صغيرة في عالم كبير

منذ قرون، دخل الإسلام إلى المالديف بحرًا، وجعل من الجزر الصغيرة سلطنة مرتبطة بالعالم الإسلامي الكبير. لكنها اليوم، تقف وحيدة في مواجهة بحر آخر: بحر الحداثة اللامبالية، والرأسمالية المتغولة، والتغير المناخي الصامت.

قصة المالديف ليست فقط عن دولة جزرية جميلة، بل هي رمز عالمي عن هشاشة الوجود الإنساني أمام القوى الكبرى، سواء الطبيعية أو السياسية. هي درس لمن ظن أن الهامش آمن من الأعاصير.

أحدث أقدم
🏠