
رغم أن ذاكرة العرب تختزن مآسي الاحتلال والانحدار، إلا أن لحظات المجد غالبًا ما تُطمس، وكأن النسيان مقصود. من بين تلك اللحظات التي غُيِّبت عمدًا، تبرز قصة عُمان حين كانت إمبراطورية بحرية تحكم زنجبار وسواحل أفريقيا الشرقية.
ليست هذه مجرد صفحة تاريخية، بل شهادة على قدرة العرب، متى امتلكوا الرؤية، على صناعة النفوذ والسيادة عبر البحر.
ومع ذلك، لا تُذكر هذه التجربة في مناهجنا، ولا في خطابنا الإعلامي، وكأن الذاكرة لا تحتمل غير الهزيمة.
في هذا المقال، نعود إلى تلك اللحظة المنسية، حين كانت عُمان من مسقط إلى زنجبار، تقود البحر وتكتب التاريخ.
في قلب التاريخ العربي، تبرز عُمان كقوة بحرية نادرة في تاريخ الجزيرة العربية، لا باعتبارها مجرد دولة خليجية محصورة، بل كإمبراطورية بحرية تمدّ سلطانها على سواحل أفريقيا الشرقية، وتحديدًا على زنجبار، تلك الجزيرة التي أصبحت يومًا ما عاصمة إمبراطورية عُمانية مترامية الأطراف.
إمبراطورية بحرية لا تُذكر
في مطلع القرن التاسع عشر، كانت عُمان تحت حكم السلطان سعيد بن سلطان البوسعيدي تمارس نفوذًا بحريًا تجاوز مياه الخليج العربي والمحيط الهندي إلى عمق السواحل الشرقية لأفريقيا. ولم يكن ذلك مجرد احتلال عسكري، بل كان مشروعًا حضاريًا وتجاريًا توسّعيًا منظمًا، امتد من مسقط إلى زنجبار، فمومباسا، ودار السلام، وجزر القمر، ومناطق من مدغشقر. ولأول مرة، أصبحت اللغة العربية والإسلام والثقافة العُمانية عناصر حاكمة في تلك المناطق، لا على سبيل الدعوة فقط، بل كأدوات دولة وبُنى سلطوية.
زنجبار: عاصمة الإمبراطورية العُمانية
لم يكن اختيار زنجبار عشوائيًا؛ فالجزيرة كانت موقعًا استراتيجيًا بالغ الأهمية في المحيط الهندي، تتحكم بمفاتيح التجارة بين الهند وأفريقيا والجزيرة العربية. وفي عام 1832، اتخذ السلطان سعيد بن سلطان قرارًا استراتيجيًا بنقل عاصمته من مسقط إلى زنجبار، مما حوّل الجزيرة إلى مركز نفوذ سياسي وتجاري وثقافي.
تحولت زنجبار إلى منارة للثقافة العربية والإسلامية، وبُني فيها قصر السلطان، والأسواق، والمدارس، وشهدت نهضة عمرانية واسعة. كما أصبحت أحد أكبر مراكز تصدير القرنفل في العالم، بفضل السياسات الزراعية التي أدخلها العمانيون.
تحالفات واستعمار مقنّع
ورغم هذا التوسع، لم تكن عُمان دولة استعمارية بالمعنى الأوروبي، بل كانت تمارس نوعًا من "السيادة التجارية"، تقيم تحالفات مع القبائل، وتنشئ موانئ وحاميات بحرية، وتديرها وفق نمط إماراتي عربي لا يتنكر للهوية الدينية ولا للروابط الثقافية.
لكنّ القوى الأوروبية، وخاصة بريطانيا، لم تكن لتسمح ببقاء قوة بحرية عربية مستقلة في قلب مستعمراتها الطامعة. فرغم تحالفات ظاهرية بين السلطان والبريطانيين، إلا أن النفوذ الأوروبي بدأ يتسلل تدريجيًا إلى زنجبار من بوابة "الحماية"، ليحوّل الإمبراطورية إلى شبح يتآكل بهدوء. وبعد وفاة السلطان سعيد، تم تقسيم الإمبراطورية فعليًا بين وريثيه، وأُعلن انفصال زنجبار عن مسقط عام 1861، لتصبح سلطنة شكلية تحت النفوذ البريطاني المباشر.
واللافت أن هذا التحول لم يكن حصيلة مؤامرات أوروبية فحسب، بل جرى بتواطؤ صامت من أنظمة عربية صاعدة آنذاك، رضيت بأوامر الغرب، وساهمت في طمس النفوذ العربي في أفريقيا، بل أيدت إخراج العرب من زنجبار لاحقًا حين جرى طردهم قسرًا بعد الثورة التنزانية، دون أن يصدر حتى بيان شجب واحد. لقد أُسدل الستار على الوجود العُماني والعربي هناك، لا بفعل الهزيمة فقط، بل بتواطؤ اللامبالاة، وصمت الخضوع العربي الممنهج.
من زنجبار إلى تنزانيا: الاستقلال المزعوم تحت وصاية الغرب
بعد إزاحة النفوذ العربي من زنجبار، ودمجها مع تنجانيقا لتشكيل "تنزانيا" عام 1964، هل تحقق الاستقلال الفعلي؟
الواقع أن تنزانيا لم تخرج من دائرة التبعية، بل انتقلت من النفوذ العماني إلى وصاية بريطانية ثم أمريكية، تُدار سياساتها وفق شروط المانحين، وتُرسم استراتيجياتها الاقتصادية داخل مراكز القرار الغربي.
وقد فُرضت عليها برامج "الإصلاح الهيكلي" من صندوق النقد والبنك الدولي، فزادت معدلات الفقر، وتعمّقت التبعية، وتراجعت الزراعة والصناعة لصالح اقتصاد ريعي هشّ.
أما الهوية الثقافية، فجرى تفكيكها بهدوء، واستُبدلت الروابط العربية الإسلامية بإرث "قومي اشتراكي" مشوّه، لا جذور له، ولا مستقبل.
هكذا، لم تكن تنزانيا نموذجًا ناجحًا لما بعد التحرر، بل كانت مثالًا على الاستقلال الشكلي في ظل عبودية اقتصادية وفكرية ممنهجة للغرب.
التاريخ المنسي
الغريب أن هذا الفصل من التاريخ العربي قلّما يُذكر في السرديات المدرسية والإعلامية، وكأننا نخجل من لحظة تفوقنا، أو نخشى استعادتها. عُمان لم تكن فقط ميناءً تقليديًا، بل كانت إمبراطورية بحرية تدير طرق التجارة وتؤثر في السياسة الدولية في محيطها. وقد لعبت دورًا هامًا في نشر الإسلام، وربط أفريقيا الشرقية بالحضارة العربية الإسلامية، على نحو يفوق تأثير كثير من الحملات العسكرية التي نالت حظًا من الذكر أكثر مما تستحق.
خاتمة
إن تجربة عُمان في زنجبار ليست مجرد تاريخ مضى، بل تذكير بأن القوة ليست حكرًا على الغرب، وأن العرب حين امتلكوا الإرادة والرؤية، أقاموا إمبراطوريات بحرية لا تقل شأنًا عن تلك التي دوّنتها أوروبا في سجلاتها. غير أن السؤال الأهم هو: لماذا لا نُدرّس هذه الفصول؟ ولماذا غاب وعينا بهذه اللحظات الفارقة التي شهدنا فيها ذروة الحضور لا مجرد الهامش؟