
في هذه المقالة، نفتح صفحة من التاريخ المُهمَل، لنتأمل كيف صارت موريشيوس دولة، ومن أين أتى سكّانها، ولماذا يشكّل "التهجير المُنظّم" حجر الزاوية في ولادة هذا الكيان السياسي-الاجتماعي الفريد. كيف تحوّل خليط الشعوب المهجّرة إلى مجتمعٍ متعايش، رغم الجروح العميقة التي خلّفها الاستعمار في الذاكرة الجمعية. ولماذا يبدو هذا النموذج الناجح ظاهريًا، كأنه أيضًا نتيجة هندسة خارجية أكثر منه تعبيرًا عن تدرّج طبيعي في نشوء الأمم.
جزيرة موريشيوس (Mauritius) هي دولة صغيرة تقع في المحيط الهندي، شرق مدغشقر، وتُعدّ من أكثر النماذج تعقيدًا من حيث التكوين السكاني والتاريخ الاستعماري، إذ لم يكن لها سكان أصليون أصلًا، وإنما بُني مجتمعها بالكامل على موجات متتالية من الاستيطان، الاحتلال، والتهجير القسري.
فيما يلي نظرة تحليلية موجزة لتاريخ موريشيوس، وكيف أصبحت دولة، ومن هم سكانها اليوم:
أولًا: من جزيرة خالية إلى مستعمرة أوروبية
- قبل القرن 16: لم تكن موريشيوس مأهولة بالبشر. كانت جزيرة نائية غنية بالغطاء النباتي والحيواني، ومن أشهر طيورها المنقرضة طائر الدودو.
- البرتغاليون كانوا أول من اكتشف الجزيرة في أوائل القرن 16، لكنهم لم يستوطنوها.
- الهولنديون هم أول من أنشأ مستوطنة على الجزيرة عام 1638، وأطلقوا عليها اسم موريشيوس نسبة إلى الأمير الهولندي "موريس فان ناسو". استخدموها كمحطة عبور، وجلبوا عبيدًا من مدغشقر للعمل في زراعة قصب السكر. لكنهم غادروها عام 1710 بسبب صعوبات الطقس والزراعة.
ثانيًا: الاحتلال الفرنسي وتوسيع مشروع العبودية
- عام 1715، استولى عليها الفرنسيون، وسمّوها إيل دو فرانس (Île de France).
- خلال القرن 18، أصبحت الجزيرة مستعمرة فرنسية مزدهرة، خصوصًا بعد تطوير مزارع السكر.
- الفرنسيون جلبوا آلاف العبيد من أفريقيا ومدغشقر والهند للعمل في الزراعة، فكان التكوين السكاني يتغير بسرعة نتيجة تهجير واستعباد شعوب مختلفة.
ثالثًا: الاحتلال البريطاني وتغيير البنية الاجتماعية
- عام 1810، استولى البريطانيون على الجزيرة خلال الحروب النابليونية، وأعادوا تسميتها "موريشيوس".
- بموجب معاهدة باريس 1814، أصبحت رسميًا مستعمرة بريطانية، لكنهم أبقوا على اللغة والثقافة الفرنسية في الإدارة والحياة اليومية.
- عام 1835، ألغت بريطانيا نظام العبودية، فتم تحرير عشرات الآلاف من العبيد. ولكن بدلًا من تحسين أحوالهم، استُبدلوا بنظام جديد يُعرف بـ "العمال المُتعاقدين".
رابعًا: التهجير الجديد – الهنود كعمالة بديلة
- بعد إلغاء العبودية، استجلب البريطانيون مئات الآلاف من الهنود (من ولايات بيهار وأوتار براديش تحديدًا) للعمل في مزارع السكر بعقود شاقة ومجحفة.
- بحلول أواخر القرن 19، أصبح الهنود يشكلون الأغلبية السكانية، ما غيّر بشكل جذري التركيبة الديموغرافية والثقافية للبلاد.
كما تجدر الإشارة إلى أن الهولنديين، قبل ذلك بقرنين (القرن 17)، كانوا قد جلبوا أعدادًا قليلة من سكان جاوة (إندونيسيا) ضمن شبكاتهم التجارية، وقد اندمج أحفادهم لاحقًا في النسيج المجتمعي، خصوصًا ضمن الطائفة المسلمة، لكنهم لم يشكلوا تيارًا ديموغرافيًا كبيرًا مثل الهنود أو الأفارقة، وجودهم الحالي ناتج عن هذا التهجير القديم.
خامسًا: الاستقلال وتكوين الدولة
- خلال القرن 20، تطوّرت الحركات الوطنية داخل موريشيوس، وطالبت بالاستقلال، مدفوعة برغبة الهنود (الغالبية) في إنهاء الهيمنة الاستعمارية الأوروبية.
- نالت موريشيوس استقلالها عام 1968، وأصبحت جمهورية برلمانية عام 1992.
- رغم صغر مساحتها، طوّرت نظامًا ديمقراطيًا مستقرًا واقتصادًا قائمًا على الخدمات المالية، السياحة، وتكنولوجيا المعلومات.
سُكّان موريشيوس اليوم
- الهندوس (حوالي 48%): أحفاد العمال الهنود الذين استُجلبوا زمن الاستعمار البريطاني.
- الكريول (أحفاد العبيد الأفارقة، حوالي 27%): يشكّلون الفئة الثانية من حيث العدد، ويتحدثون بالفرنسية أو الكريولية.
- المسلمون (حوالي 17%): أغلبهم من أصل هندي (سنة، وأقلية شيعية).
- الصينيون والمسيحيون البيض (فرنسيون وبريطانيون): أقلية اقتصادية مؤثرة رغم قلتهم.
خلاصة رمزية
موريشيوس ليست "وطنًا" بالمعنى التقليدي، بل جزيرة صُنعت سكانيًا بتعاقب الاحتلالات والتهجير. لم تكن مأهولة، ثم أُهِلَت بالعبيد، ثم عُمِّرَت بالمهجرين المتعاقدين. ومع ذلك، تحولت إلى دولة مستقلة مزدهرة، تحكمها أغلبية هندية، وتتحدث الفرنسية، وتتعامل بالإنجليزية، وتعيش على إرث عبودية لا يزال يُلقي بظلاله على الواقع الاجتماعي.