
في زمن تغيّرت فيه الأصوات قبل أن تتغيّر الوقائع، لم يعد الكذب هو الخطر الأكبر في الإعلام، بل القدرة على التناقض دون خجل. ترى المنصة ذاتها تبكي وتضحك، تسبّ وتمتدح، تُدين وتُبرّر، وكل ذلك في وقت قصير. لم يعد المعيار هو الحقيقة، بل اللحظة، ومن يدفع ثمنها أو يُملي روايتها.
هكذا نشأ إعلام جديد لا يحترم ذاكرة المتلقي، بل يُراهن على نسيانه، ويُغيّر مواقفه كما تُغيّر الحرباء ألوانها، ثم يطلب التصفيق، لا الحساب.
هذا المقال محاولة لتفكيك ظاهرة الإعلام المتحوّل: ذاك الصوت الذي يتبدّل مع كل موجة، ويصوغ وعي الناس بلون المصلحة لا لون الحقيقة.
كلما اقتربت من صوته، ابتعد عن نفسه. وكلما صدّقته في رواية، خانك في التالية. تراه كل يوم في ثوب جديد، يقسم أنه هو ذاته، لكنه لا يحتفظ بأي أثرٍ لما قاله بالأمس. هو الإعلام الذي يبدّل جلده حسب الطقس، وينكر أقواله إذا تغيّر اتجاه الريح. كان يبكي على الضحايا في نشرة الساعة الثامنة، ثم يصفق لقاتلهم في الساعة التاسعة، دون أن يشعر بأي تناقض.
لا يخجل من التضاد، بل يراه براعة. يستبدل الأسماء، والخرائط، وحتى الضمائر، ثم يقول لك: لا تفكّر كثيرًا، الأمور أعقد مما تتصور. كل مأساة عنده قابلة للمونتاج. وكل حقيقة يمكن تفصيلها بحسب المقاس السياسي.
المدني الذي بكى لأجله في بلد ما، هو ذاته "درع بشري" في بلد آخر.
والدمعة التي ذرفها على طفلٍ مشرد، تُمحى حين يكون الطفل من الطرف الخطأ.
ليس كذبه هو الخطر الأكبر، بل تناقضه الهادئ.
فالكذبة الصريحة قد تُكتشف، لكن التناقض الناعم يُربك العقل.
يُربّي فيك قابلية النسيان، ويعوّدك على ألا تسأل: "ألم تقولوا عكس هذا من قبل؟"
وحين تعاتبه، يبتسم كمن يكشف سذاجتك:
"الأحداث تتغير"، "الوقائع تتطور"، "المواقف ليست جامدة"...
لكنه لا يخبرك أن ما تغير هو من يدفع الثمن، ومن يملك الكاميرا.
هو لا يكتفي أن يكذب، بل يُعلّم الناس كيف يعيشون بالكذب.
يُجمّل البشاعة، ويغسل الدم بالحبر، ويقنعك أن ما رأيته ليس ما رأيته.
مذمومٌ في المجالس وإن صُفِّق له في المنصات،
وملعون في الذاكرة الشعبية، مهما لمع وجهه على الشاشات.
لأنه يبيع صوته لمن يدفع أكثر، ويُلبّس الخيانة قناع الحياد، ثم يطلب منك أن تحترمه كمحترف.
لكن لا احتراف في خيانة الوعي،
ولا شرف في تبديل المبادئ كالأحذية.
هكذا يتحوّل الإعلام من ناقل للحدث، إلى صانعٍ للواقع، ثم إلى ممسوح الذاكرة.
لكنه لا ينسى كل شيء، بل فقط ما يُربكه أو يفضحه.
فلا تتعجب حين يعاملك كمن لا ذاكرة له.
لأنه ببساطة، يعكس ذاكرته هو.