
في زمن تعاظمت فيه منصات التعبير وانكمشت فيه بوابات التمحيص، برزت ظاهرة لافتة لا تقل خطورة عن التضليل المتعمّد: الجاهل الصادق. ذاك الذي يتكلم بملء صوته، وهو لا يدري أن صوته – بجهله لا بسوء نيته – أصبح أداة في يد من يصنعون الزيف الجماهيري. إنه لا يكذب، لكنه لا يعرف أنه يُضلّل، أو يُستَغل ليخدم سردية لا يفهم أعماقها. وهنا تتجلى المفارقة: حين يتحوّل الصادق – بجهله – إلى خادمٍ غير مباشر للباطل، من حيث لا يشعر.
الجاهل لا يحتاج إلى أن يكذب كي يُضلّل
الخطورة في الجاهل ليست في نواياه، بل في جهله ذاته. فالكلام عن قضية كبرى، دون فهم سياقها السياسي أو المعرفي، ينتج خطابًا مشوشًا يُغرق الناس في تفاعلات سطحية.
فالجاهل – حين يتصدر – يركّز على الجزئيات، يُفرّغ الانفعالات، ويُشبع الجمهور بفتات التحليل، ليُشعرهم بأنهم أدركوا الحقيقة، بينما الحقيقة تزداد غموضًا في الخلفية.
كم من صوت بكى الضحايا وتغافل عن الجاني؟
وكم من متحدث ندد بالفساد وهو يُكرّس ذات المنظومة بفهمه المبتور؟
حين يُضخَّم الجاهل ويُمنَح المنصة
ليس من قبيل الصدفة أن يُبرز الإعلام المؤسسي – أحيانًا – أصواتًا سطحية تبدو صادقة، لكنها تخدم دون وعي الرواية الرسمية. يتم استضافة بعض "الناشطين" أو "المؤثرين" ممن يمتلكون حضورًا شعبويًا ولكن لا يملكون عمقًا تحليليًا.
يصرخون، يغضبون، يثورون… ولكن في المساحة المسموح بها فقط.
هكذا يُستبدل النقد الحقيقي بالاستعراض العاطفي، ويُفرّغ الوعي من جذوره، لصالح تفاعلات لحظية ترسّخ الجهل الجماعي.
الجاهل الصادق أداة فعالة للتشتيت
في ظل الأزمات، يبحث الناس عن صوت. فإن لم يجدوا من يُبصّرهم، تشبثوا بمن يُشبههم. وهنا تتعاظم سلطة الجاهل الصادق، الذي يُقدّم فهمًا مُبسّطًا مريحًا، لكنه خادع.
يتحدث في قضايا معقدة بمنتهى الثقة، يُصنّف، يُدين، يُحرّض… دون أن يُدرك أنه يعيد إنتاج ما يريده خصوم الحقيقة بالضبط:
تشويش، انفعال، اختزال.
حين يُستخدم الجهل لتصفية الحسابات
في كثير من السياقات، يُستثمر الجاهل الصادق لتصفية الحسابات الأيديولوجية أو الحزبية.
فهو يُهاجم خصمًا حقيقيًا – ظنًا منه أنه يحارب باطلًا – بينما هو يسهّل ضرب كل صوت مقاوم من موقع الجهل لا من موقع المعرفة.
وهكذا يتحول الجاهل إلى كبش طُعم يُقدَّم للجمهور، كي ينشغلوا به عن الجناة الحقيقيين.
كيف نحمي الوعي من صدق الجهلاء؟
ليس كل من يصرخ صادقًا، وليس كل صادق عارفًا.
وهنا تكمن الحاجة الملحة لبناء ثقافة التمييز بين صدق العاطفة وصدق الفهم.
الحل لا يكون بإسكات الجاهل، بل بكشف جهله دون تشويه، وتقديم الخطاب البديل المعرفي القادر على سحب البساط من الضجيج.
فالإعلام الموجّه لا ينتصر فقط بما يبثه من أكاذيب، بل بما يرفعه من جهلاء، وبما يُسكت من أصوات مدركة.