من يملك الصوت؟ خرائط الإعلام بين السلطة والسوق والضحية

في زمن تتعدد فيه المنصات وتتشابك فيه الأصوات، أصبح السؤال الأخطر ليس "ما الذي يُقال؟"، بل "من يملك حق القول؟". في المشهد الإعلامي المعاصر، لا يكفي أن تكون الحقيقة دامغة لتُسمَع، بل لا بد أن تمرّ عبر خرائط النفوذ، وأنظمة التمويل، وغرف التحرير.وهكذا، بات الصوت الإعلامي أداة صراع، لا مجرد وسيلة نقل. وبات من الضروري أن نفكك هذه الخرائط، ونفهم الفوارق العميقة بين من يتحدث، ولمن، ولماذا.
 فلنقف عند أربع قوى فاعلة في صناعة "الخطاب الإعلامي": 
السلطة، السوق، الأفراد، والضحايا.


الإعلام الرسمي: حين يكون الميكروفون امتدادًا للسلطة

الإعلام الرسمي هو الذراع الإعلامية للأنظمة الحاكمة.
وإن اختلفت تسمياته من "الإذاعة الوطنية" إلى "التلفزيون العمومي"، فجوهره واحد: مصالح الدولة أولًا، والحقيقة لاحقًا، إن سمح المقام.
هذا النوع من الإعلام لا ينقل ما يحدث، بل ينقل ما ينبغي للناس أن يفهموه عمّا يحدث.
هو إعلام مصفّى، لا يجرؤ على تجاوز السقف السياسي، ويُعيد تدوير الخطاب الرسمي بلغة أقل جفافًا.

لا يُقاس تأثير الإعلام الرسمي بعدد المتابعين، بل بقدرته على تثبيت الرواية الرسمية في وعي المواطن، حتى في حال التشكيك.
فهو يرسم صورة الاستقرار، يجمّل الأزمات، ويشيطن المعارضين، ويعيد تشكيل الحدث بما يناسب "مصلحة الأمة" كما تراها السلطة.

الإعلام الخاص: بين منطق السوق وتزييف الوعي

من جهة أخرى، يُقدَّم الإعلام الخاص باعتباره بديلًا حرًا.
لكنه في الواقع غالبًا ما ينتقل من وصاية السياسة إلى وصاية المال.
هو إعلام تحركه الإعلانات، والممولون، وحسابات الربح والخسارة، حتى لو لبس ثوب "الاستقلالية".

حين يتحدث الإعلام الخاص عن "الحرية"، فهو غالبًا يقصد حرية الوصول للجمهور بما يجلب المشاهدات، لا ما يحرّر العقول.
ولهذا نراه يضخ الإثارة، ويُبسّط القضايا المعقدة، ويتجنب المساحات الرمادية التي تُربك المتلقي.

في هذا الإعلام، لا توجد حقيقة كاملة، بل "رواية قابلة للبيع".
وقد يفتح منبرًا لمعارض، ثم يُغلقه بعد حين حين تتغير حسابات السوق، أو حين يُلوّح أحد المعلنين بورقة الضغط.

إعلام الأفراد: من الحرية إلى الفوضى

مع صعود المنصات الاجتماعية، ظهر ما يُعرف بـ"إعلام الأفراد" أو "الصحافة المواطنية".
وفي بدايته، شكّل هذا النمط اختراقًا مهمًا لمنظومة الصوت المركزي.
أصبح بإمكان أي شخص أن يُوثق، يُحلل، ويصل إلى جمهور قد يتجاوز إعلام دولة كاملة.

لكن سرعان ما تسلل التشويش.
فقد تحول بعض الأفراد إلى أبواق شخصية لأيديولوجيات أو دول، وتحول البعض الآخر إلى أدوات مأجورة ضمن حملات ممنهجة.
وغابت الحدود بين من ينقل الحدث لأنه معني بالحق، ومن يُصوّره لأنه مدفوع باتجاه معيّن.

إعلام الأفراد ليس دائمًا نقيًا أو بريئًا، بل قد يكون أكثر خطورة حين يتقن التلاعب العاطفي ويخفي خلفه تمويلًا أو تحريضًا.
هنا، تتحول "الحقيقة" إلى مادة قابلة للقصّ واللصق، وتُختزل المأساة في مشهد مصمّم ليُثير، لا ليُفهم.

إعلام الضحايا: صوت الشاهد في الميدان

وسط كل هذه الفوضى، يظهر صوت نادر، هشّ، لكنه نقيّ: صوت الضحية من قلب الألم.
ليس مؤدلجًا، ولا ممولًا، ولا مدرّبًا.
هو الصوت الذي يُجبَر على أن يوثّق موته، لأن أحدًا لا يوثق حياته.

هذا هو إعلام الضحايا: صوت الشاهد في الميدان.
حين تنقطع الكهرباء عن غزة، ويُقصف مقر الصحافة، ويتجاهل الإعلام العالمي المجازر،
يخرج الجريح بهاتفه ليقول: "انظروا إلينا"، لا ليؤثر، بل ليمنع المحو الكامل.

هذا الإعلام لا يملك سردية سياسية، بل يروي ما يراه بعينيه، ويسمعه بأذنيه، ويشعر به تحت جلده.
ومع ذلك، يُتهم بالمبالغة، أو يتم تجاهله، أو يُحتوى لاحقًا ضمن أجندات الآخرين.

إعلام الضحايا لا يصنع خطابًا، بل يترك أثرًا.
إنه الذاكرة الحيّة التي تُقاوم النسيان، والصرخة التي تُحرج المتفرجين.

بين إعلام الأفراد وإعلام الضحايا: الخيط الرفيع بين الشاهد والبوق

كثيرًا ما يُخلط بين من ينشر من هاتفه باعتباره "صوت الحقيقة".
لكن ليس كل من يصوّر من الميدان هو شاهد، وليس كل من يُغرد تحت القصف هو ضحية.

إعلام الأفراد قد يكون نزيهًا، وقد يكون مدفوعًا، موجّهًا، أو مستثمرًا في المشهد لصالح طرف ما.
بينما إعلام الضحايا لا يملك هذا الترف: هو يصرخ لأنه لا يملك خيارًا آخر.

الفارق الجوهري أن الإعلام الشخصي يُنتج خطابًا، أما إعلام الضحية فيُنتج شهادة.
الأول قد يُخضع الواقع لفكرته، أما الثاني فهو جزء من هذا الواقع، ينقله كما هو، بعين دامعة وصوت مخنوق.

خاتمة: من يحتكر الحكاية؟

السؤال الأهم ليس "أي إعلام نتابع؟"، بل "من يحتكر الحكاية؟".
في كل حدث، هناك أكثر من سردية، لكن ما يصلنا هو ما تُقرره السلطة، أو السوق، أو شهرة الأفراد.
ويبقى صوت الشاهد الحقيقي هو الأكثر هشاشة… والأكثر صدقًا.

إن تفكيك مشهد الإعلام هو خطوة ضرورية لا لفقد الثقة، بل لاستعادتها على أسس صحيحة.
ففي عالم تتعدد فيه الروايات، لا بد من إعادة اكتشاف الضحايا لا كأرقام، بل كرواتهم.

وإن لم نمنح صوتهم حقه، فسنكتفي دومًا بسماع من يروي لنا الحكاية كما يشاء، لا كما حدثت.

أحدث أقدم
🏠