
قبل التحول: إيران السنية في العهد العباسي وما بعده
لعدة قرون بعد الفتح الإسلامي، ظلت إيران سنية المذهب في غالبها، تتبع المذاهب الفقهية الأربعة، وكان للفقه الشافعي والحنفي حضور بارز. بل إن بعض أعلام المذهب السني الأوائل كانوا من أصول فارسية، مثل الإمام البخاري، والإمام مسلم، والرازي، والطبري وغيرهم. كما ساهم العلماء الفرس مساهمة كبيرة في علوم الحديث والتفسير والكلام.
لكن رغم هذا الاندماج الظاهري في المنظومة الإسلامية السنّية، لم تُمحَ تمامًا الهويات العميقة والولاءات التاريخية التي ظلّت تتفاعل تحت السطح، خاصة في ما يخص موقف النخبة الفارسية من الدولة الأموية والعباسية، والحنين إلى الهيبة الإمبراطورية الساسانية.
العامل الصفوي: التشيع كأداة توحيد قومي
التحول الكبير بدأ مع قيام الدولة الصفوية في القرن العاشر الهجري (القرن السادس عشر الميلادي)، على يد إسماعيل الصفوي الذي أعلن عام 1501م المذهب الشيعي الاثني عشري مذهبًا رسميًا للدولة، وأجبر السكان على اعتناقه بالقوة. لم يكن التشيع خيارًا فقهيًا بقدر ما كان مشروعًا سياسيًا لتوحيد إيران تحت سلطة مركزية قوية، تميّزها عن جيرانها السنّيين، خصوصًا العثمانيين في الغرب والقبائل التركمانية في الشرق.
مارست الدولة الصفوية سياسات قمعية ضد أهل السنة، وهُدّمت مساجدهم، وقُتل علماؤهم، وشُوّه تراثهم. وكان الهدف تحويل الولاء المذهبي إلى أداة لبناء هوية قومية جديدة تُفارق الإرث العربي السنّي، وتُعيد لفارس مجدها التاريخي عبر غطاء شيعي جديد.
العامل الطائفي: العداء مع العثمانيين وشرعنة السلطة
في سياق الصراع مع الدولة العثمانية السنّية، استخدم الصفويون التشيع كوسيلة لتعبئة الجماهير ضد "الآخر السنّي"، ولبناء شعور جمعي بأن "الحق" مع آل البيت وأن التشيع هو الموقف الشرعي من التاريخ. وهكذا أعيد تأويل المرويات التاريخية بشكل يخدم هذا التحوّل، وجرى تضخيم مآسي كربلاء، وتوظيفها ضمن خطاب سياسي شعبي.
وفي المقابل، ردّت الدولة العثمانية بتعزيز الخطاب السنّي السلطاني، مما عمّق الشقاق الطائفي وأدخل الأمة في مسار استقطاب مذهبي خطير.
العامل الثقافي: الفرس والتشيع.. تلاقي الهامش والمظلومية
وجدت بعض الأوساط الفارسية في التشيع صدىً لوجدانها التاريخي، فالتركيز الشيعي على المظلومية، والتقوى العاطفية، والرمزية، وسردية الانتقام من "الظالمين"، كلها كانت تُناسب البيئة الثقافية التي لم تنسَ سقوط الإمبراطورية الساسانية على يد العرب المسلمين. وهكذا شكّل التشيع قناة تأويلية بديلة تسمح بإعادة رسم العلاقة مع الإسلام، دون الخضوع الكامل للهوية العربية الغالبة في التاريخ الإسلامي السني.
نتائج التحول: من المذهب إلى الدولة
أثمر هذا التحول المذهبي عن نشوء دولة شيعية قوية تحت العباءة الصفوية، ثم القاجارية، وصولًا إلى الدولة الخمينية المعاصرة، التي ورثت البنية الطائفية ذاتها ولكن بصيغة ثورية معاصرة. لقد تحوّل التشيع من مجرد مذهب إلى هوية سياسية متكاملة، تؤسس لشرعية دينية قومية بديلة عن الإسلام السني الكلاسيكي.
وتحوّلت إيران إلى مركز عالمي للتشيع، تصدّر فقهها ورموزها وخطابها إلى مناطق شتى في العالم الإسلامي، خصوصًا عبر أدوات القوة الناعمة: الإعلام، الميليشيات، الحوزات، والخطاب الثوري.
خلاصة: حين تتقاطع العقيدة بالسياسة
إن تحوّل إيران من السنية إلى التشيع لم يكن مجرد تطور فقهي ديني طبيعي، بل كان نتيجة مركبة لتقاطع السياسة بالثقافة، والتاريخ بالمظلومية، والقومية بالمذهب. ولولا المشروع الصفوي السياسي، لما استطاع التشيع أن يترسّخ في وجدان الشعب الإيراني إلى هذا الحد. لكنها أيضًا لم تكن مصادفة؛ فالأرض كانت مهيأة نفسيًا وثقافيًا، والسياسة أحسنت استغلال تلك التهيئة.
وفي النهاية، تظلّ التجربة الإيرانية مثالًا على كيف يمكن للعقيدة أن تُوظّف لإعادة هندسة هوية شعب، حين تمسك السياسة بمفاتيح التاريخ والوجدان الجماعي.
كلمات مفتاحية:
وصف الصورة المقترحة: خريطة قديمة توضح مناطق النفوذ السني والشيعي في القرن السادس عشر، مع صورة رمزية لجندي صفوي يحمل راية مذهبية، وخلفه مسجد فارسي الطراز.