
أنظمة الانتظار: عندما تُؤجل الفريضة باسم التنظيم
في عدد متزايد من الدول، لا يستطيع الفرد أداء الحج حتى بعد توفر ماله واستعداده النفسي، إلا إذا استوفى شروطًا إدارية مرهقة. بعضها ظاهر كتنظيم الحصص، وبعضها ضمني كتحقيق الرضا السياسي والأمني.
أما في الدول التي تعتمد نظام "الادخار التدريجي"، فإن الحاج قد يُسجّل في الثلاثين، ولا يُسمح له بالسفر إلا بعد بلوغ الستين، هذا إن لم يُؤجَّل موعده أو يُلغَ لأسباب فوق قدرته.
تحت غطاء "التنظيم"، تتحوّل الاستطاعة الشرعية إلى انتظار إداري طويل، وكأن الفريضة باتت منوطة بموافقة الدولة، لا بنداء الروح.
الشركات الوسيطة: الخصخصة المقنّعة للشعائر
في ظل هذا الواقع، نشأت سوق منظمة تحيط بالحج من كل جانب: شركات رسمية تحتكر الترتيبات، ومكاتب خاصة تزايد في الأسعار، وبرامج فندقية من طبقات متفاوتة لا تختلف كثيرًا عن درجات السفر السياحي. كل هذا يُسوّق باعتباره "تسهيلًا"، بينما هو في حقيقته إعادة تشكيل للعبادة وفق منطق السوق.
والأسوأ من هذا، أن الفارق لم يعد بين القادر وغير القادر، بل بين من يستطيع الدفع مرة واحدة، ومن عليه أن يقسطها لأعوام، أو أن يُستثنى بالكامل.
منطق الردع المالي: حين يُعاد تعريف الاستطاعة
حين يُسأل المسؤولون عن هذه الرسوم والبرامج والأسعار المرتفعة، غالبًا ما يكون الجواب: "الحج ليس واجبًا إلا على من استطاع".
لكن هذا الجواب يخفي تحوُّلًا خطيرًا: لقد أعيد تعريف "الاستطاعة" بما يتناسب مع شروط المنظومة، لا مع معايير الشريعة.
الاستطاعة لم تعد تعني القدرة المالية والبدنية، بل القدرة على اجتياز العراقيل البيروقراطية، ومجاراة الأسعار، والانتظار حتى تسمح لك السلطات أن تكون "مستطيعًا".
بين السيادة والعبادة: من يحكم الحج؟
الدولة المضيفة بدورها، رغم ما تبذله من توسعة وخدمات، تدير الحج على أساس اعتبارات سيادية واقتصادية صارمة.
عدد الحجيج يخضع لتوازنات سياسية، وطبقات الخدمات تتبع ترتيبًا طبقيًا صريحًا، والتأشيرة نفسها قد تُمنح أو تُمنع لأسباب لا علاقة لها بالحالة الإيمانية، بل بالأوضاع الدبلوماسية أو الأمنية.
والنتيجة النهائية أن الشعيرة التي صيغت لتحرير الإنسان، أصبحت محاطة بسلسلة من الشروط التي تُفقدها معناها الجوهري.
خاتمة: بين التنسيق المشروع والتقييد الممنهج
لا أحد يُنكر أن شعيرة بهذا الحجم تتطلب قدرًا عاليًا من التنسيق والتنظيم. لكن حين تتحوّل الضرورة إلى ذريعة، والتنظيم إلى وسيلة تحكم، فإننا نبتعد عن مقاصد الشريعة باتجاه نمط حديث من "مأسسة التدين"، يُدار فيه الحج كما تُدار المشاريع الربحية، وتُؤدى فيه الشعيرة في السن الذي لم يُبقَ من الحياة إلا القليل.
وإذا كان من واجب المسلمين أن يحترموا النظام، فإن من واجب الأنظمة أن تحترم الفريضة.