الضمير المروض: لماذا يتحرّك الغريب نحو فلسطين بينما صمت القريب صار فضيلة؟

 

حين لا يكون الفرق في المسافة، بل في من سمح لك أن تشعر، ومن علّمك أن تصمت

في مشهد يتكرّر كلما نزفت غزة، تطلّ علينا العواصم الغربية بمظاهرات ضخمة، لا تنقصها الجرأة ولا الفعل:
اقتحامات لمصانع الأسلحة، حصار لسفارات داعمة للاحتلال، قوافل بحرية لكسر الحصار كـ"سفينة مادلين"، وانسحاب أكاديمي وفنّي وطلابي من كل أشكال التطبيع.

وفي الجهة الأخرى، حيث القُرب الجغرافي والانتماء الديني والثقافي، لا تُرى ردود الفعل إلا كظلال باهتة:
صمت رسمي، تبلّد شعبي، حالة من الانفصال الوجداني… وكأن الجرح هناك لا يعني شيئًا هنا.

لكن السؤال الأعمق الذي يجب أن يُطرَح ليس:
"لماذا يتحرّك الغربي بينما يصمت العربي؟"
بل: من الذي كَبَتَ العربي حتى تبلّدت مشاعره؟ وكيف أُعيد تشكيل ضميره ليخاف من التفاعل؟


لا يُولد الإنسان محايدًا تجاه المذابح، بل يُدرَّب على الحياد

الضمير العربي لم يُولَد ميتًا. هذا الضمير ذاته هو من فجّر الانتفاضات، واحتضن المقاومة، وسقط من أجله الشهداء في كل جولات الصراع.
لكنه خضع لسنوات طويلة من إعادة التشكيل، لا عبر العنف المباشر فحسب، بل بمنهجية عميقة ومركّبة:

  • إعلامٌ يُعيد تعريف الجريمة على أنها "أحداث"
  • خطابٌ دينيّ يُحرّف معنى الولاء والبراءة لصالح الحكّام
  • مناهج تعليمية تُفرغ القضية من مركزيتها، أو تحيلها إلى حصة جغرافيا
  • حالة قمع سياسي تجعل من أي تفاعل خطرًا وجوديًا على صاحبه
  • شيطنة كل من يرفع صوته، ووسمه بالتطرف أو الانتماء لأجندات خارجية

    بهذه الوسائل، لم تُمنَع الشعوب من الفعل فحسب، بل أُعيد برمجة مشاعرها.
    أصبح الغضب عبثًا، والتعاطف مخاطرة، والانفعال العلني سببًا للاعتقال أو التشهير.

    الترويض ليس إسكاتًا فقط، بل إعادة تصنيعٍ للوعي

    ما جرى للشعوب العربية ليس قمعًا عابرًا، بل هندسة وعي ممنهجة جعلت حتى التعاطف مرهونًا بإذن السلطة.

    فالسلطة لا تمانع أن تبكي على غزة، ما دمت تبكي في سرّك، دون أن تحرج النظام أو تُربك "التوازنات".
    ولا تمانع أن تكتب منشورًا، ما دمت لا تخرج للشارع.
    ولا تمانع أن تغضب، ما دمت لا تُحمّل أحدًا المسؤولية.

    هذه "الحرية المدجّنة" صنعت مواطنًا مراقبًا لنفسه، يتجنّب التفاعل، لا لأنه لا يشعر، بل لأنه دُرِّب على الخوف من العواقب.
    صار السكوت حكمة، والحياد احتياطًا، والتعاطف الخافت فضيلة عقلانية.

    حين تكون أوروبا "أكثر حرية" في الدفاع عن فلسطين من أهل الجوار

    المفارقة الكبرى ليست في أن أوروبيين غير مسلمين يضحّون من أجل غزة، بل في أن مواطنيهم لا يُلاحَقون بسبب ذلك.
    بينما في الدول العربية، قد يُفصل موظف من عمله بسبب كلمة، أو يُعتقل طالب بسبب لافتة، أو تُقمع تظاهرة قبل أن تبدأ.

    هكذا يُفهم كيف أصبح "الغريب" أكثر قدرة على الفعل، لا لأنه أقرب إنسانيًا، بل لأنه أقلّ قمعًا سياسيًا.

    إنه الفرق بين أن تملك صوتًا وتُحاسب على استعماله، وبين أن تُولد وفي داخلك جهاز رقابة ذاتية يُذكّرك في كل لحظة:
    "اصمت… ليس هذا شأنك".

    هل المشكلة في الشعوب؟ أم في أنظمتها؟ أم في خطابها الترويضي؟

    حين تُتّهم الشعوب العربية باللامبالاة، يجب أن يُسأل:
    هل منحها أحد فرصة أن تهتم؟ أن تتحرّك؟ أن تتفاعل دون قمع أو تخوين أو تجريم؟
    وحين يُقارن فعل الأوروبي برد فعل العربي، يجب أن نُفرّق بين من ما زال يملك أن يشعر ويفعل، ومن كُبّلت مشاعره قبل أن تولد كفعل.

    فالتاريخ أثبت أن الشعوب حين تُرفع عنها الأغلال، تنهض.
    لكن حتى ذلك الحين، فالمعركة الحقيقية ليست مع العدو الخارجي فقط، بل مع أنظمة زرعت في ضمير شعوبها الخوف من التضامن، والخجل من التعاطف، والريبة من أي انحياز للحق.

    الوعي لا يموت، لكنه يُوضع تحت الإقامة الجبرية

    هذا هو جوهر الصراع اليوم:

    • ليس بين عرب ويهود
    • ولا بين شرق وغرب
    • بل بين وعي مُتروك له أن يشعر ويتحرّك
    • ووعيٍ أُخضع حتى صار لا يثق في نفسه، ولا في مشاعره، ولا في جدوى الانحياز للحق

      وهذا ما يفسّر لماذا يُبحر الغريب نحو غزة، بينما يقف القريب على الشاطئ… يراقب… يهمس… أو يصمت.

      أحدث أقدم
      🏠