
تآكل السردية: حين يسقط القناع أمام الجماهير
منذ إعلان قيامها، اعتمدت إسرائيل على سردية الضحية لتبرير عنفها، وقد نجحت في فرض هذه السردية على العقل الغربي، مستثمرة الهولوكوست، والخطاب الأخلاقي الليبرالي، وشيطنة الآخر العربي والفلسطيني. لكن هذه القصة بدأت تتهاوى أمام جيل جديد لا يستهلك رواية الإعلام الرسمي كما كانت الأجيال السابقة.
لم يعد الإسرائيلي "المدني المتحضّر المهدَّد بالإرهاب"، بل صار في أعين كثيرين الجلاد، والقوة الاستعمارية، ومجرم الحرب. ولعلّ المفارقة أن أدوات التواصل الحديثة التي ساهمت إسرائيل ذات يوم في تطويرها، أصبحت اليوم تُستخدم لكشف وجهها الحقيقي.
تبدّل المعاملة: من التعاطف إلى الرفض
تشير تقارير وشهادات إلى أن كثيرًا من الإسرائيليين حول العالم باتوا يواجهون طردًا من متاجر ومقاهٍ، أو يُقابلون بنظرات ازدراء، أو يُرفض التعامل معهم في مناسبات أكاديمية وفنية. هذا ليس مجرد سلوك احتجاجي، بل تعبير رمزي عن تحوّل الوعي الجمعي العالمي تجاه إسرائيل: من كيان يُحتفى به كـ"معجزة ديمقراطية في الشرق"، إلى دولة فصل عنصري ومحاصِرة لشعب أعزل.
هذا التحوّل له أثر صادم على الوعي الإسرائيلي، الذي طالما اعتبر نفسه عضوًا محترمًا في "العائلة الغربية"، ومحميًا من أي وصمة أخلاقية. إنه اليوم يكتشف أنه لم يعد في مأمن من العزلة، بل إن ممارساته باتت تُنتج له خصومًا حتى في قلب المدن الأوروبية والأميركية.
قرار المحكمة الجنائية: انهيار "الاستثناء الإسرائيلي"
إن مطالبة المحكمة الجنائية الدولية باعتقال بعض القادة الإسرائيليين بتهم جرائم حرب، حتى وإن لم تُنفذ فعليًا، تُعدّ ضربة رمزية هائلة. فلطالما تصرّفت إسرائيل كما لو كانت فوق القانون الدولي، مدعومة بحقوق "استثنائية" لا تُمنح لغيرها. والآن، تنقلب الطاولة: قادتها ملاحقون، وأفعالهم موثّقة، وجرائمهم تُناقش علنًا في المحافل القضائية العالمية.
ليس الأمر قانونيًا فقط، بل نفسيًا وأخلاقيًا: الشعب الإسرائيلي بدأ يدرك أن الغطاء الأخلاقي الذي كان يحميه بدأ يتمزق، وأن العالم ينظر إليه بعين الريبة، لا الاحترام.
الشعور العام الإسرائيلي: من الفوقية إلى القلق
تاريخيًا، نشأ المزاج الإسرائيلي على شعور "استعلاء مضاد" يجمع بين التفوق الأخلاقي والتفوّق التكنولوجي والدعم العالمي. أما الآن، فثمة انكسار في هذه المعادلة: بدأت تنمو مشاعر الغضب والتوجّس، والحديث عن "ملاحقة اليهود من جديد"، وعودة خطابات "اللاسامية" التي تستخدمها المؤسسة السياسية كدرع دفاعي.
لكن خلف هذه الادعاءات، يظهر في العمق شعور أعمق وأكثر إرباكًا: الخوف من فقدان الشرعية، والقلق من أن إسرائيل قد تتحول إلى كيان منبوذ رمزيًا، حتى لو بقيت قوية عسكريًا. المجتمع الإسرائيلي يعيش الآن حالة دفاع نفسي جماعي، تُنتج إنكارًا وتشكيكًا واحتجاجًا، لكنها لا تخفي الحقيقة: العالم يتغيّر، والوعي يتغير، والسردية تنهار.
خاتمة: إسرائيل في مواجهة مرآتها
ما يجري اليوم ليس مجرد أزمة سياسية، بل أزمة مرآة. إسرائيل، التي طالما روّجت لكونها "ديمقراطية تحت الحصار"، تجد نفسها الآن محاصَرة أخلاقيًا من جمهور عالمي يرى ما يجري في غزة بأمّ عينه، ويربط بين الصور والحقائق، دون وسطاء دعائيين.
هذه الأزمة – بطبيعتها الرمزية والشعبية – تمثّل تهديدًا استراتيجيًا أعمق من أي قرار عسكري. فحين تفقد الدول سرديتها، تفقد غطاءها، ومتى تهاوت الأساطير، تعرّى الواقع، وسقطت القلاع الزجاجية.