إسرائيل: لم تنشأ إلا بعد أن أُنشئت الحكومات العربية

في قلب الرواية الرسمية لتاريخ الشرق الأوسط، تُقدَّم إسرائيل كحدث استثنائي في سياقٍ عدائي، نشأت فيه "دولة يهودية" وسط بحر من الأنظمة العربية الرافضة. لكن هذه الرواية تخفي أحد أكثر الأسئلة إحراجًا: كيف أمكن لإسرائيل أن تُزرع بنجاح في هذا الإقليم، وأن تستمر وتزدهر وتُحمى طوال هذه العقود؟ الإجابة تبدأ من قلب المفارقة التاريخية: إسرائيل لم تُنشأ إلا بعد أن أُنشئت الحكومات العربية. بل يمكن القول إن تلك الحكومات كانت الأرضية التي مهدت لقيام إسرائيل، سواء عن قصد أو دون وعي، عبر بنيتها ووظيفتها وأسلوب تكوينها.

التفكيك أولًا.. ثم التثبيت

سقطت الدولة العثمانية بصفتها الكيان السياسي الجامع للمسلمين، وكانت هذه لحظة حرجة أعادت تشكيل الخريطة الذهنية والسياسية للعرب. كان الغرب الاستعماري – بقيادة بريطانيا وفرنسا – قد أعدّ العُدّة مسبقًا، ليس فقط لتقاسم التركة العثمانية، بل لإعادة تصميم الشرق على أسس التفتيت والهيمنة. وهكذا وُلدت "الدول العربية" الحديثة، لا من رحم نهضة أو إرادة شعبية، بل من رحم الخرائط المرسومة في غرف المفاوضات الاستعمارية.

اتفاقية سايكس – بيكو عام 1916 كانت لحظة الانفصال الكبرى بين الجغرافيا والتاريخ. لم تُقسم الأرض فقط، بل قُطعت أوصال الروح السياسية للأمة، وفُرضت حدود لا تعبّر عن هوية الشعوب، بل عن مصالح المنتصرين. في هذا السياق، ظهرت "الحكومات العربية" على صورة كيانات قُطرية وظيفية، غايتها ضبط المجال لا تحريره، وإدارة التناقضات الداخلية لا تجاوزها، وتأبيد التبعية لا كسرها.

الوعد الذي سبَق التأسيس: بلفور والتهيئة الصامتة

وعد بلفور عام 1917 لم يكن وعدًا بريئًا أو مؤجلًا، بل كان وعدًا مشروطًا بتهيئة المسرح العربي من الداخل، كي لا يُجهض المشروع الصهيوني في مهده. فالمطلوب لم يكن فقط زرع جسم أجنبي في فلسطين، بل ضمان ألا تكون هناك قوة إقليمية قادرة على منعه أو إسقاطه.

ولذلك، خُطط بعناية لتكون الأنظمة المحيطة بفلسطين – مصر، شرق الأردن، سوريا، العراق – مكبّلة سياسيًا، مفككة شعبيًا، ومنشغلة بذاتها. حتى محاولات الاستقلال الأولى كانت تجري تحت سقف الانتداب، وغالبًا ما تؤول إلى نخب بيروقراطية تُجيد الحديث باسم الشعب لكنها تفشل في تمثيله فعليًا.

إسرائيل: نتيجة لا استثناء

حين أعلنت إسرائيل قيامها عام 1948، لم يكن ذلك انبثاقًا مفاجئًا ولا نشازًا في لحن عربي موحَّد. بل كانت تتويجًا لمرحلة طويلة من التحضيرات، ليس فقط من قبل الصهاينة والغربيين، بل كذلك بسبب عجز البُنى السياسية العربية، وتواطؤ بعضها، وسلبيّة بعضها الآخر. فلم يكن المحيط العربي مهيّأ للمقاومة الفعلية، بل كان – في جوهره – مُهيَّأ لتَحمُّل وجود إسرائيل كأمر واقع.

الأدهى أن الجيوش العربية التي دخلت فلسطين عام 1948، دخلت متأخرة، منقسمة، بدون قيادة موحّدة، في ظل تفاهمات ضمنية مع البريطانيين. انتهت المعركة بهزيمة مدوية، لم تَصنع فقط نكبة الفلسطينيين، بل دشّنت عهدًا عربيًا جديدًا عنوانه: إدارة الصراع بدل إنهائه.

الكيانات القُطرية كحواضن للنكسة

ما إن استقرت إسرائيل في مكانها، حتى بدأ الصراع العربي الصهيوني يتخذ شكلًا جديدًا: صراعًا محفوظًا ضمن نطاق خطابي، يُستخدم لتثبيت شرعية الأنظمة لا لتحرير الأرض. باتت "المقاومة" في معظم مراحلها مدجّنة، تخضع لحسابات الإقليم والمخابرات والمصالح. وحين ظهرت حركات تحرر حقيقية من رحم الشعوب، أُجهضت أو أُعيد توجيهها أو قُطعت عنها الموارد.

في المقابل، حافظت إسرائيل على موقعها بوصفها القوة المتماسكة الوحيدة في شرقٍ عربي مفكك. بل أصبحت – من منظور غربي – "الركيزة الثابتة" في منطقة متقلبة. هذا يعني أن الكيانات العربية القُطرية، لم تُعِق وجود إسرائيل، بل هيأت لاستمراره، ولو من حيث لا تدري.

بين العرب الرسميين والعرب الحقيقيين

لا يمكن إنكار أن الشعوب العربية لم تكن يومًا متصالحة مع وجود إسرائيل. لكن المشكلة لم تكن في الوجدان الشعبي، بل في البُنية السياسية. لقد وُجدت إسرائيل في قلب شعب رافض لها، لكنه محكوم بأنظمة لم تكن صادقة في عداوتها، ولا صادقة في مقاومتها.

كان القادة العرب يتاجرون بفلسطين في الخطابات، بينما يُبرمون اتفاقات غير معلنة خلف الستار. ومع مرور العقود، تحوّل الصراع إلى "قضية"، ثم إلى "مشكلة"، ثم إلى "ملف"، حتى انتهى به الحال إلى أن يكون "عبئًا" يجب التخلص منه عبر التطبيع.

إسرائيل كوظيفة.. لا ككيان فقط

حين نفهم إسرائيل ليس فقط بوصفها دولة، بل كأداة وظيفية ضمن نظام إقليمي خاضع، ندرك أن وجودها لم يكن غريبًا، بل ضروريًا لبقاء النموذج المفروض على المنطقة. إسرائيل تعمل بمثابة "الشرطي المتقدم" للغرب، وهي كذلك نقطة توازن استراتيجية لضمان ألّا تخرج الشعوب عن الخط المرسوم. ولهذا، فوجودها مرتبط عضويًا بوجود الأنظمة الحالية. إذا انهار النظام العربي الرسمي، تصبح إسرائيل في خطر. وإذا استقرت إسرائيل، فذلك يعني أن النظام العربي لا يزال في القبضة.

خاتمة: العودة إلى السؤال الجوهري

حين نقول: "لم تنشأ إسرائيل إلا بعد أن أُنشئت الحكومات العربية"، فنحن لا نطرح مجرّد تتابع زمني، بل نطرح حقيقة بنيوية صادمة: أن الكيانات القُطرية العربية وُجدت لتمنع الوحدة، لتُحيّد الدين، لتفكك الأمة، لتراقب الحدود، ولتهيّئ الأرضية لمشروع لا يمكن أن يقوم إلا في ظل الغياب الكامل للمشروع العربي النهضوي.

إن إسرائيل ليست نكسة فقط، بل مرآة. مرآة تعكس مدى تفاهة النظام الإقليمي المفروض علينا، وتُجبرنا على طرح السؤال الحقيقي: من العدو؟ ومن الصديق؟ وما الطريق؟ هل الطريق هو "حل الدولتين" أم إسقاط نظام سايكس – بيكو برمّته؟

أحدث أقدم
🏠