من الحملات الصليبية إلى إسقاط الدولة: هل تفرّط الإمبراطوريات في ثمار النصر؟

من الحملات الصليبية إلى "الاستقلالات" الوظيفية : في لحظة نادرة من التاريخ، يلتفت الإنسان العربي أو المسلم إلى الخريطة السياسية من حوله ويتساءل:

هل ما نراه من دولٍ "مستقلة" هو فعلاً استقلال حقيقي؟
وإذا كانت القوى الغربية قد أنفقت قرونًا طويلة في محاولات احتلال العالم الإسلامي والسيطرة عليه – عسكريًا ثم اقتصاديًا وثقافيًا – فهل يُعقل أن تُهدر كل هذا الجهد فجأة، وتترك ثمار نصرها في أيدي "دول جديدة"، تنهض فوق الأرض نفسها التي دُحر فيها الغرب تاريخيًا؟

الحملات الصليبية: بداية المشروع الغربي الطويل

منذ القرن الحادي عشر، بدأ الغرب المسيحي أولى محاولاته الجادة لاختراق قلب العالم الإسلامي، عبر سلسلة من الحملات الصليبية، غطّت قرنين من الغزو العسكري المباشر.
جاءت تلك الحملات مدفوعة ليس فقط بالروح الدينية، بل أيضًا برؤية استراتيجية حضارية: السيطرة على القدس، كسر هيمنة الإسلام على شرق المتوسط، والتحكم بالممرات التجارية العالمية.

لكن، وبعد مقاومة شرسة، أُجبر الغرب على التراجع، في هزيمة ثقيلة على يد صلاح الدين والمماليك لاحقًا. ورغم الانسحاب، لم تُغلق المعركة.

فالمشروع الغربي أدرك أن الغزو بالقوة وحدها لا يكفي.
فبدأ التحوّل إلى ما هو أخطر: غزو العقل، وتفكيك البنية الحضارية من الداخل.

الاستشراق والتبشير: غزو ناعم قبل العاصفة

مع نهاية الحملات الصليبية، تسلّل المشروع الغربي مجددًا إلى الشرق الإسلامي، لكن هذه المرة عبر المؤسسات العلمية والتبشيرية.
جاء المستشرقون يدرسون القرآن والحديث والتاريخ واللغة، لا حبًا بها، بل لفهم نقاط القوة في البنية الإسلامية تمهيدًا لاختراقها.

بالمقابل، انتشرت المدارس التبشيرية، خاصة في بلاد الشام وشمال أفريقيا، وأُنشئت النخب الفكرية التي تلقت تعليمها في أوروبا أو عبر مناهجها. كانت تلك المرحلة بمنزلة زرع البذور الأولى للانقسام الثقافي الداخلي، حيث بدأ جزء من أبناء الأمة ينظر لنفسه من خلال عين المستعمر.

الاستعمار الحديث: اقتحام مباشر لإسقاط الكيان الجامع

في القرنين التاسع عشر والعشرين، عادت أوروبا مجددًا، لكن هذه المرة بقوة الجيوش والأساطيل.

  • احتُلت الجزائر عام 1830،
  • ومصر عام 1882،
  • والهند في قبضة التاج البريطاني،
  • وأُخضعت معظم أفريقيا والشرق الأوسط لنفوذ عسكري مباشر.

وكان الهدف النهائي: تفكيك الكيان الجامع للأمة الإسلامية.
هذا الكيان، ممثلًا في الدولة العثمانية، ظل – رغم ضعفه – هو الحائل الأخير بين الغرب وتحقيق الهيمنة الكاملة.
وفي عام 1924، سقطت الخلافة رسميًا، وأُعلن الانتصار الأكبر في المشروع الغربي ضد العالم الإسلامي منذ ألف عام.

ولكن مهلاً... لماذا انسحب الغرب بعد ذلك؟

من هنا يبدأ السؤال المحوري في المقال:
هل يُعقل أن تنفق الإمبراطوريات الغربية قرونًا في الصراع والاختراق، ثم تترك المنطقة لأممٍ جديدة تصعد فيها بحرية؟

الإجابة الصريحة: لا. لم تترك شيئًا، بل غيّرت أدوات السيطرة فقط.

من الجندي إلى العميل: آليات السيطرة الجديدة

بُعيد إسقاط الخلافة، لم يبقَ الاحتلال العسكري إلا سنوات محدودة، ثم انسحب.
لكن الانسحاب لم يكن هزيمة، بل انتقالًا من السيطرة المباشرة إلى غير المباشرة.

تُركت المنطقة ممزقة إلى كيانات جديدة، كل واحدة منها:

  • محدودة في جغرافيتها وعدد سكانها ومواردها.
  • غير قادرة على الاكتفاء الذاتي.
  • معتمدة على المركز الغربي في السلاح والمال والتقنية.

وفي قلب كل "دولة جديدة" صعدت بعد سايكس بيكو، كانت هناك:

  • طبقة حاكمة صُنعت أو زُرعت بدقة.
  • نُخَب ثقافية ووظيفية مدرّبة على إعادة إنتاج قيم المركز.
  • نظام تعليمي يفصل الهوية عن الدين والتاريخ.
  • اقتصاد تابع، مربوط بالدين الخارجي والاستيراد والتكنولوجيا المستوردة.

وبذلك، ضمنت القوى المنتصرة أن "الاستقلالات" لن تُنتج مشروعًا حضاريًا منافسًا، بل دويلات متنازعة، تُعيد إنتاج الهزيمة تحت رايات وطنية.

لا دول جديدة... بل أنظمة وظيفية

السؤال الذي يفرض نفسه الآن:
هل كانت الدول الحديثة التي ظهرت بعد الاستعمار الغربي دولًا فعلًا؟ أم أنها مجرد صيغ وظيفية لضمان استمرار النفوذ؟

الواقع أنها ليست دولًا بالمعنى الحضاري الكامل، بل:

  • أدوات لضبط الشعوب.
  • صمامات أمان للمنظومة الغربية.
  • ساحات اختبار للصراعات الطائفية والإثنية الخفية التي زُرعت عن عمد.
  • مراكز إنتاج "نُخب مُستعمَرة"، تُدير بلدانها وفق ما يضمن استمرار الارتباط بالمركز.

لذا، الحديث عن "دول جديدة" تنهض بعد سقوط الكيان الإسلامي ليس دقيقًا. بل الأدق أن نقول:
ظهرت أشكال سياسية جديدة تُشرف عليها القوى المنتصرة لحماية مكتسباتها التاريخية.

هل تفرّط الإمبراطوريات في ثمار النصر؟

السؤال الذي بدأنا به المقال نعيد طرحه الآن بصيغته الحاسمة:

هل من المنطق أن تترك الإمبراطوريات الغربية – بعد ألف عام من الحروب والاختراق والاستعمار – ثمار نصرها لتنهض دول مستقلة جديدة في المنطقة؟

الإجابة الواقعية:
لا. بل ما نشهده اليوم هو شكل متطور من إدارة النصر، لا التفريط به.

فالسيطرة لم تعد تتطلب قواعد عسكرية ومندوب سامٍ، بل:

  • عملاء محليين،
  • اقتصاد مُدار من الخارج،
  • إعلام يُشوّه كل محاولة تحرر،
  • تعليم يصنع وعيًا زائفًا.

باختصار، الإمبراطوريات لا تفرّط في نصرها، بل تؤبّده بأساليب أكثر فاعلية، وأكثر خداعًا.

خلاصة المقال:

المشروع الغربي في المنطقة لم يكن حملة عسكرية عابرة، بل صراع حضاري ممتد منذ الحملات الصليبية حتى اليوم.
وبعد نجاحه في إسقاط الكيان الإسلامي الجامع، لم يغادر، بل أعاد إنتاج السيطرة عبر أنظمة وظيفية محلية تخدمه دون أن ترفع رايته.
لذلك، فالحديث عن "دول جديدة مستقلة" في العالم الإسلامي يجب أن يُفهم ضمن سياق السيطرة لا التحرر.

الاستقلال الحقيقي لم يُنجز بعد.
والمعركة لم تنتهِ، بل دخلت مرحلتها الأخطر: مرحلة السيطرة المقنّعة.

أحدث أقدم
🏠