إسرائيل: لماذا تفضّل الجندي القتيل على الجندي الأسير أو المصاب؟

في خطاب الحرب تروّج الحكومات والبروباغندا العسكرية لمشهد بطولي يخدع العيون ويكذب الحقائق. الموت يُكرّم، يُشهر، يُرفع كراية للشجاعة والفداء. أما الجندي المصاب أو الأسير؟ فلعنة باردة تلوح في ميزانية الجيش وأروقة القرار السياسي، عبء مكلف، إحراج استراتيجي، وفضيحة إعلامية يصعب احتواؤها. هكذا تختزل السلطة قيمة الإنسان: إما أن تموت بطلاً تكريمًا مزيفًا، أو تبقى حيًا عبئًا مُفضحًا.

هذه هي الحقيقة القاسية: النظام يُعلي من قيمة موتك لأنه يختصر معاناته بتكلفة واحدة نهائية. وفي المقابل، تُعاقب على بقاياك الحية التي تستهلك الموارد، تكاليف العلاج، الدعم النفسي، تعويضات العجز. الدولة لا تهتم إلا بحسابات الربح والخسارة، حيث تتحول دماء الجنود إلى أرقام في دفتر حسابات لا يُظهر إلا قيمة الجندي حين يكون قابلاً للقتل لا للعلاج.

هنا يُنكشف زيف خطاب "البطولة"، الذي يتغنى بالموت بينما يهمش المصابين كأنهم منبوذون داخل المؤسسة نفسها. منطق الدولة وحسابات ميزانيتها تكشف قناع التضحية: الجندي ليس بطلًا، بل سلعة قابلة للاستهلاك، ويُحكم عليه أن يكون إما شهيدًا مجيدًا أو عالة مالية.

إنها مفارقة مريرة: الدولة التي ترفع راية الفداء تُذل المصاب كما لو كان فاقدًا لأي قيمة. هل تستحق التضحية احترامًا حقيقيًا، أم مجرد شعارات مكررة لإخفاء استغلال الجسد البشري؟ وهل المجتمع يحق له أن ينسى أولئك الذين بقوا على قيد الحياة لكن بأجساد محطمّة، يتامى الدعم والنظرة الإنسانية؟

لماذا تفضّل إسرائيل الجندي القتيل على الأسير؟

من بين كل الدول، تُجسّد إسرائيل هذا المنطق بأوضح صوره. فالثقافة العسكرية الإسرائيلية تُفضل – صراحة أو ضمنًا – أن يُقتل الجندي بدل أن يقع في الأسر. لأن الأسير في عقل المؤسسة الأمنية الإسرائيلية يتحول إلى ورقة ابتزاز سياسي، مصدر ضغط دائم، وصورة إخفاق في أعين الرأي العام.

أُسر جندي إسرائيلي لا يُعدّ مجرد حادث فردي، بل خللًا وطنيًا يهدد تماسك صورة الردع والسيطرة. فالجندي الأسير يُجبر الدولة على الدخول في صفقات تبادل مهينة (كما حدث في صفقة شاليط)، ويكشف هشاشة "الآلة الأمنية" التي طالما تباهت بها إسرائيل.

في حين أن الجندي القتيل، ورغم خسارته، يُحوَّل إلى أيقونة وطنية، يظل تحت سيطرة المؤسسة: تُعلن موته، تُقيم له جنازة رسمية، يُدرج في قوائم التكريم، وتُغلق قضيته. أما الأسير، فهو جرح مفتوح، وأرق دائم، وملف لا يُمكن التحكم بسرده.

لذلك، لا عجب أن تُفضّل المؤسسة العسكرية الإسرائيلية الموت "التحكمي" على الحياة "الحرجة"، وتُشيطن الأسر كأكبر كابوس سياسي – حتى لو كان الجندي ما زال حيًا.

أمثلة من الواقع التاريخي

تاريخيًا، لم تختلف معاملة المصابين أو الأسرى كثيرًا عن هذا المنطق القاسي. ففي الحرب العالمية الأولى، كان الجنود الذين أصيبوا بإعاقات جسدية تُتركهم الحكومات في ملاجئ أو معسكرات منفصلة، أحيانًا تُعاملهم كعالة بدلًا من أبطال. أما في الحروب الحديثة، من فيتنام إلى العراق، فكم من جندي نجا من المعركة ليُواجه حربًا أخرى: الإهمال، الفقر، الانتحار.

البعد الإنساني والنفسي للمصابين

الإصابة ليست مجرد عجز جسدي، بل تكسر حقيقي للإنسان وكيانه. جندي يصارع آلامه النفسية والجسدية، بين جدران المستشفيات وبين عيون المجتمع الذي لا يرى إلا الجندي السليم القادر على القتال. تُترجم هذه المعاناة إلى أزمات نفسية حادة، اكتئاب، عزل اجتماعي، وفقدان معنى الحياة.

الدولة التي تتجاهل هذه الحقيقة لا تُذل الجندي المصاب فقط، بل تُذل الإنسانية نفسها، بتقليصها قيمة الإنسان إلى مجرد سلعة عسكرية تُشترى وتُباع وفق تكاليف الربح والخسارة. التضحية الحقيقية لا تنتهي بالموت، بل تبدأ بالرعاية الحقيقية لكل من بقوا يحملون أثقال الحرب في أجسادهم وعقولهم.

السياسة والاقتصاد وراء استغلال الجندي

خارج حدود ساحة المعركة، لا ينفصل مصير الجندي عن المنظومة السياسية والاقتصادية التي تُدير الدولة. فالجيش، في جوهره، جهاز مهيمن يُستخدم لضمان مصالح النخب الحاكمة والحفاظ على استقرار النظام، بغض النظر عن حياة الجنود.

الاقتصاد العسكري، بتكاليفه وحجم إنفاقه، يُحوّل الجندي إلى عنصر في لعبة الربح والخسارة، حيث تُحسب التكلفة مقابل الفائدة. الموت يُختم بقصة بطولة تُسوّق إعلاميًا، ويُحوّل إلى سلاح دعاية لتبرير سياسات قمعية أو توسعية. أما الإصابة أو الأسر، فهي كشفٌ لمدى هشاشة العلاقة بين الدولة ومواطنيها الذين يتحولون إلى أدوات قابلة للاستهلاك، لا بشرًا لهم حقوق.

في ظل هذا الواقع، يتحول الجندي إلى رمز لأزمة أخلاقية عميقة بين الدولة والإنسان، حيث تُسحق الكرامة تحت ضغط موازين القوة والمال، وتُقنن التضحية لتصبح ربحًا أو خسارة.

أحدث أقدم
🏠