
هذا التناقض الظاهري بين إلحاد النخبة الصهيونية والاستناد إلى الرواية الدينية التوراتية هو أحد أبرز الأوجه التي تكشف التلاعب الأيديولوجي في المشروع الصهيوني، ويستحق تفكيكًا معمّقًا، من خلال محورين رئيسيين: المنشأ الأيديولوجي للحركة الصهيونية، ووظيفة الرواية الدينية في الصراع السياسي والرمزي.
1. الصهيونية: حركة علمانية ذات لبّ قومي وليس ديني
ظهرت الصهيونية في أوروبا أواخر القرن التاسع عشر، كمشروع قومي يهودي بقيادة مفكرين علمانيين ملاحدة أو غير متدينين مثل ثيودور هرتزل ودافيد بن غوريون. كانت خلفية هؤلاء الفكرية متأثرة بالعقلانية الأوروبية، والليبرالية، وحتى الاشتراكية، ورفضوا المرجعيات الدينية كإطار للهوية اليهودية.
- لم يكن الهدف من الصهيونية تطبيق الشريعة اليهودية أو بناء دولة توراتية، بل بناء دولة قومية لليهود على أساس "الشعب" و"التاريخ" و"الأرض"، وليس على أساس الدين.
- بل كان المتدينون اليهود التقليديون في أوروبا، خاصة الأرثوذكس، ضد الصهيونية في بداياتها، واعتبروها خروجًا على عقيدة الانتظار الإلهي للمخلص.
إذن، من حيث التأسيس، الصهيونية حركة علمانية تؤمن بالهوية اليهودية كإثنية ثقافية وليست دينية، وهذا ما يجعل كثيرًا من قادتها ملاحدة أو غير ملتزمين دينيًا، ومع ذلك يتحدثون عن "شعب الله المختار" و"أرض الميعاد".
2. الرواية الدينية كوظيفة أيديولوجية لتبرير المشروع الاستيطاني
رغم علمانية الصهاينة، إلا أنهم استخدموا النص الديني كوسيلة شرعنة سياسية وتاريخية لوجودهم في فلسطين:
- الرواية التوراتية تُستثمر لتقديم "حق تاريخي" في الأرض: وعد إلهي، وهيكل مزعوم، وعودة منتظرة.
- تُوظَّف الرموز الدينية في الخطاب الإعلامي والسياسي والعسكري، رغم أن من يروج لها قد يكون لا يؤمن فعليًا بها.
- يتم استدعاء الدين لتجنيد المتدينين اليهود في المشروع، ولإضفاء قداسة على الدولة الصهيونية أمام الرأي العام الغربي المسيحي المؤيد دينيًا لإسرائيل.
وهكذا، فـ الدين في المشروع الصهيوني ليس عقيدة وإنما أداة: أداة للتعبئة، وأداة للتبرير التاريخي، وأداة للاستقطاب، وأداة للتلاعب بالوعي.
3. ازدواجية الخطاب: علماني في الداخل، ديني في الخارج
- داخل المؤسسة السياسية والعسكرية الإسرائيلية، اللغة السائدة علمانية، تكنوقراطية، استراتيجية.
- أما في الخطاب العام، الإعلامي والثقافي، الموجّه لليهود المتدينين وللمسيحيين الإنجيليين في أمريكا وأوروبا، فتُستخدم لغة توراتية مكثفة.
وهذه الازدواجية توضح أن المسألة ليست قناعة روحية، بل أداء أيديولوجي يخدم مصالح قومية واستعمارية.
4. تحليل ختامي: الدين كغطاء لعلمانية استعمارية
الصهيونية، كأيديولوجيا، تشبه حركات قومية أخرى في العالم وظّفت الرموز الدينية لإضفاء شرعية على مشروعها، لكنها من الداخل حركة براغماتية مادية استعمارية.
- الصهيوني الملحد لا يرى في الدين سوى أداة سياسية.
- والصهيوني المتدين، إن وُجد، خاضع لرؤية الدولة، لا الشريعة.
- أما الضحية، فهي الحقيقة الدينية نفسها، التي يتم تدنيسها حين تتحول إلى وقود للاستعمار والاستيطان والعنصرية.