إسرائيل: الهجرة المضادة.. عكسية تروي انقلاب مشروع الأرض الموعودة

منذ نشأتها، سعت إسرائيل إلى تجميع يهود العالم تحت رايتها، مستندة إلى خطاب ديني وسياسي وأمني يعِدهم بالحماية والهوية. لكن مع تصاعد الحروب الأخيرة، وتحديدًا بعد زلزال 7 أكتوبر 2023، بدأت ظاهرة مقلقة بالظهور بقوة غير مسبوقة: الهجرة المضادة. لم يعد الحديث عن "استيعاب القادمين" هو العنوان المركزي، بل عن مغادرة الصهاينة أنفسهم للكيان الذي قيل لهم إنه ملاذ النجاة.

من استيعاب الشتات إلى تصدير القلق

في السنوات الماضية، ظلّت الهجرة المعاكسة من إسرائيل إلى الخارج محدودة وتُصنّف كاستثناءات فردية. لكن التحولات الكبرى التي عرفها الكيان مؤخرًا – على المستويات الأمنية والسياسية والاجتماعية – قلبت المعادلة. لقد بدأت شرائح واسعة من الإسرائيليين، لا سيما من الفئة العلمانية والطبقة الوسطى، تفقد الثقة في قدرة الدولة على تأمين مستقبلها ومواطنيها.

وحين يتحول “الوطن الموعود” إلى مساحة رعب، فإن أول ما يُقوّض هو الأسطورة الصهيونية ذاتها: أسطورة "الأمان القومي".

الأرقام لا تكذب: القفزة الكبرى بعد الحرب

وفقًا لبيانات مكتب الإحصاء المركزي الإسرائيلي وتقارير الكنيست:

  • في عام 2023، غادر إسرائيل نحو 55,300 شخص بشكل دائم، مقارنة بـحوالي 37,800 في 2022 – أي زيادة بنسبة 46%.
  • بعد هجوم حماس في أكتوبر 2023، تسارعت الهجرة، فوصل عدد المغادرين في الشهور اللاحقة إلى ما يقارب 30,000 شخص، معظمهم من مناطق الوسط والشمال.
  • أما عام 2024، فقد سجّل خروجًا صافيًا تاريخيًا، إذ بلغ عدد المغادرين أكثر من 82,700، بينما لم يعد سوى 23,800 فقط.
  • في المقابل، تراجعت أعداد المهاجرين الجدد إلى إسرائيل (ما يُعرف بـ"علياه") إلى 32,280 مهاجرًا فقط في 2024، مقابل 47,000 في 2023.

النتيجة: صافي هجرة سلبية تجاوز –50,000 شخص، وهي سابقة في تاريخ الدولة.

من يغادر؟ ولماذا؟

بحسب دراسات إحصائية وتحقيقات صحفية داخل إسرائيل:

  • أكثر من 40% من المغادرين هم من فئة الشباب (20–35 عامًا)، وغالبيتهم من الطبقة المتعلّمة.
  • ما يزيد عن 50% منهم هم من اليهود المولودين خارج إسرائيل (مهاجرون سابقون) يشعرون بالخذلان من المشروع الذي جذبهم.
  • الوجهات المفضلة: الولايات المتحدة، ألمانيا، كندا، أستراليا، واليونان (التي أصبحت ملاذًا مفاجئًا لكثير من الإسرائيليين الهاربين من الحرب).

هذه الأرقام لا تعبّر فقط عن حركة ديموغرافية، بل عن نزيف في شرعية الدولة من الداخل.

ماذا تغيّر بعد 7 أكتوبر؟

الضربة الأمنية والنفسية التي تلقتها إسرائيل في هجوم حماس كانت أعمق من مجرد اختراق عسكري. لقد كشفت هشاشة الأسطورة القومية، وهزّت ثقة المجتمع الإسرائيلي بذاته:

  • الإحساس بالحصانة الداخلية انهار.
  • فقدان الثقة في الجيش والمؤسسة الأمنية بلغ مستويات غير مسبوقة.
  • السردية الصهيونية التي روّجت لإسرائيل كـ"البيت الآمن لليهود" انهارت أمام أعين أبنائها.

وللمرة الأولى منذ عقود، بات الحديث عن “خيار الهجرة” ليس خيانة أو ترفًا، بل "خلاصًا شخصيًا" لمئات الآلاف.

الكيان في مأزق وجودي صامت

ما يُسمّى "الهجرة المضادة" لا ينبغي اختزالها كحالة طارئة ناتجة عن حرب. بل هي تعبير عن اهتزاز البنية النفسية والسياسية للمشروع الصهيوني برمّته. إذ حين تهاجر النخبة، ويهرب الشباب، ويتراجع الوافدون، فإن الدولة تدخل مرحلة "الانسحاب الصامت من الداخل".

ربما لا يُعلن أحد نهاية إسرائيل، لكن المؤشرات واضحة: تآكل الثقة، انفراط العقد الاجتماعي، وهروب العقول والطاقات. وهذا ما تخشاه النخب الصهيونية أكثر من الصواريخ: الانهيار من الداخل.

أحدث أقدم
🏠