لكن الرد الإسرائيلي لم يكن رمزيًا: قوات كوماندوز بحرية اقتحمت السفينة في المياه الدولية، عطّلت الاتصال، واستخدمت مواد كيميائية مثيرة، ثم اقتادتها قسرًا إلى ميناء أسدود، واحتجزت المتضامنين قبل أن تُفرج عنهم لاحقًا.
الرسالة السياسية لهذا الاقتحام تتجاوز الحصار البحري، لتكشف طبيعة التوازن العالمي: مجرد سفينة صغيرة أصبحت تهديدًا لسردية دولة مدججة بالقانون الدولي المزيف.
رمزية الاسم: من هي "مادلين"؟
سُمّيت السفينة تكريمًا للناشطة السويدية مادلين كارلسون، إحدى أبرز المتضامنات الأوروبيات مع فلسطين، والتي شاركت سابقًا في محاولات لكسر الحصار، وتوفيت في 2022.
الاسم لم يكن تفصيلًا عاطفيًا، بل إعلانًا رمزيًا عن الاستمرارية: أن النضال من أجل غزة لم يعد محصورًا في حدود الفلسطينيين أو محاور القوة، بل أصبح قضية أخلاقية عابرة للجنسيات.
17 عامًا من الحصار: والحصار لا يُحرج أحدًا
منذ سيطرة حركة حماس على قطاع غزة في 2007، فرضت إسرائيل حصارًا بريًا وجويًا وبحريًا خانقًا، بدعم مباشر من النظام المصري وصمت المجتمع الدولي.
ورغم آلاف الضحايا المدنيين، والأزمات الصحية والغذائية، لم يُحرَك الحصار كجريمة دولية؛ بل تم تبريره بـ"الدواعي الأمنية".
هذا التواطؤ جعل من كل محاولة رمزية لكسر الحصار خطرًا على المنظومة وليس على إسرائيل وحدها.
سفن سبقَت "مادلين": محطات رمزية ودامية
على مدى السنوات الماضية، تحوّلت محاولات كسر الحصار إلى وسيلة نادرة لإحراج المنظومة الدولية. أهم هذه المحاولات:
- أغسطس 2008: وصول سفينتي ليبرتي وفري غازا إلى ميناء غزة بنجاح. كانت هذه أول مرة تصل فيها سفن مدنية إلى القطاع منذ فرض الحصار، وأحدثت صدمة رمزية لإسرائيل.
- مايو 2010 – سفينة مافي مرمرة: قادتها مؤسسة تركية ضمن "أسطول الحرية"، وشارك فيه أكثر من 600 متضامن من 40 دولة. اقتحمتها قوات الاحتلال في المياه الدولية، ما أسفر عن استشهاد 10 أتراك وجرح العشرات.
- أكتوبر 2016 – سفينة زيتونة: بقيادة نسائية بالكامل، أبحرت من برشلونة، وتم اعتراضها قبل وصولها لغزة.
- 2018 – سفن العودة والحرية: انطلقت من النرويج والسويد، وتم اعتراضها بوحشية.
ورغم أن جميع السفن تقريبًا مُنعت من الوصول، إلا أن المعنى التراكمي لهذه المحاولات بات يُربك سردية الاحتلال ويُحرج العالم.
لماذا يخشى الاحتلال سفينة مدنية؟
الخوف لا يكمن في الطحين أو المتضامنين، بل في الخطر الرمزي:
- أن يتم انتهاك الحصار دون إذن من إسرائيل.
- أن تُعيد السفينة تذكير العالم بأن الحصار ليس وضعًا طبيعيًا.
- أن تُحرج المؤسسات الدولية التي لطالما صمتت عن خنق مليوني إنسان.
لذلك، كل سفينة تُواجَه بعنف، حتى ولو لم تكن تحمل إلا شعارات.
حين يتحول القانون الدولي إلى أداة قمع
اقتحام سفينة مادلين تم في المياه الدولية، وليس في حدود السيادة الإسرائيلية. وهو ما يُعدّ انتهاكًا صريحًا لاتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار.
لكن اللافت أن أي مؤسسة أممية لم تصدر إدانة حقيقية أو فعالة، ما يؤكد أن القانون في هذا السياق بات خاضعًا بالكامل لموازين القوة.
القرصنة السياسية المقنّعة تُمارَس باسم "الدفاع عن النفس"، وتُشرعَن من دون مقاومة تذكر.
الاحتلال لا يُحاصر غزة فقط، بل يُحاصر الخطاب
كل من يُحاول إعادة تعريف الحصار كجريمة يُصنّف "محرضًا"، وكل من يدعم غزة يُراقَب أو يُعتقل أو يُشيطن إعلاميًا.
"مادلين" بذلك ليست فقط قاربًا في عرض البحر، بل اختبارًا لمدى قابلية الخطاب الدولي للتحرّر من قبضة إسرائيل وسرديتها الأمنية.
خاتمة
"مادلين" لم تُغيّر الواقع المادي في غزة، لكنها كشفت هشاشة النظام الدولي أمام الحقيقة البسيطة: أن حصار مليوني إنسان لا يمكن الدفاع عنه دون سحق القيم الأخلاقية.
وسيبقى اسم مادلين – القارب والناشطة – شاهدًا على أن كل نظام يدّعي الإنسانية بينما يصمت على الحصار، هو نظام سقط رمزيًا... حتى لو لم يسقط بعد سياسيًا.