
الأموال الداخلة: رأس المال الجديد
حين تدخل الشركات الأجنبية إلى بلدٍ ما، فإنها تجلب معها:
- تمويلًا استثماريًا لبناء مصانع، مراكز خدمات، أو مشاريع طاقة.
- تكنولوجيا وخبرة إدارية يصعب على الاقتصاد المحلي توفيرها ذاتيًا.
- فرص عمل جديدة غالبًا في قطاعات استراتيجية كالصناعة أو الخدمات الرقمية.
هذه التدفقات تُعتبر إيجابية، إذ تُضيف سيولة جديدة وتُسهم في تحريك عجلة الاقتصاد.
الأموال الخارجة: الأرباح المحوّلة
لكن الاستثمار الأجنبي ليس عملًا خيريًا. الشركات الأم تعيد جزءًا كبيرًا من أرباحها إلى الخارج، عبر ما يُعرف بـ إعادة الأرباح (Repatriated Profits).
- في كثير من الدول، يتجاوز حجم الأرباح الخارجة حجم التدفقات الداخلة، خاصة عندما تستقر الشركات لفترات طويلة وتبدأ جني ثمار مشاريعها.
- النتيجة أن الدولة المضيفة قد تستفيد من التشغيل والتنمية، لكن من حيث النقد الأجنبي الصافي، قد تكون الخسارة أكبر من الربح.
الميزان الصافي: من يربح أكثر؟
- الدولة المضيفة تربح: وظائف، ضرائب، صادرات، مكانة في سلاسل التوريد العالمية.
- المستثمر الأجنبي يربح أكثر: أرباح ضخمة تُحوَّل إلى الخارج، مع استفادة من الحوافز الضريبية التي تقدّمها الحكومات.
الأرقام العالمية تشير إلى أن صافي الأرباح الخارجة من الدول النامية بات يفوق أحيانًا التدفقات الجديدة الداخلة، مما يجعل الاستثمار الأجنبي محركًا للنمو المحلي لكنه في الوقت نفسه آلية لاستنزاف الأرباح.
كيف تُحوّل الدول الاستثمار الأجنبي إلى مكسب استراتيجي؟
- فرض نسب شراكة محلية: بحيث يكون للشركات الوطنية نصيب في الأرباح.
- ربط الحوافز بشروط نقل التكنولوجيا والتدريب، بدلًا من منح إعفاءات ضريبية مجانية.
- تطوير الشركات المحلية لتندمج في سلاسل التوريد التي تنشئها الشركات الأجنبية، ما يجعل العوائد تتسرب إلى الاقتصاد الداخلي.
- تنويع مصادر الاستثمار لتجنب التبعية لمستثمر أو دولة بعينها.
فيما يلي نص يحتوي على بيانات إحصائية عالمية حول التدفقات الداخلة للاستثمار الأجنبي المباشر (FDI inflows) وبعض المؤشرات المرتبطة بما يُخرج أيضاً، مع تحليل لموازنة الأموال الداخلة مقابل الأموال التي تعود إلى بلدان المُستثمرين الأجانب. أختم بوصف صورة مقترحة للمقال.
بيانات عالمية حول الاستثمار الأجنبي
- حسب تقرير UNCTAD World Investment Report 2025، بلغت التدفقات العالمية للاستثمار الأجنبي المباشر حوالي 1.5 تريليون دولار في سنة 2024.
- من تلك، اقتصرت النسبة الأكبر من التدفقات على الدول النامية (Developing economies). في 2024، الاستثمارات الداخلة إلى الدول النامية كانت مستقرة تقريباً، بحوالي 867 مليار دولار.
- لكن توجد مؤشرات بأن جزءاً من هذه الأموال ليس باستثمار فعلي يُستخدم دائماً لإنتاج أو توسع صناعي، بل يدخل كـ “مسارات مالية” transit flows أو عن طريق دول وسيطة (conduit economies) تُستخدم لتوجيه الاستثمارات نحو وجهتها النهائية مع مزايا ضريبية أو تنظيمية.
- كذلك، حسب تقارير البنك الدولي، في 2023 انخفضت تدفقات الاستثمار الأجنبي إلى الدول النامية إلى حوالي 435 مليار دولار، وهو أدنى مستوى منذ حوالي 2005 للدول النامية.
ما يُعرف بالأموال الخارجة (Repatriated Profits) والموازنة
- لا توجد بيانات موحدة عالمياً مُحدثة تُبين بدقة كم من الأرباح يُعاد تحويله للخارج مقابل ما يبقى داخل البلد المضيف في كل الدول، لكن بعض الدراسات تشير إلى أن الأرباح المعاد إرسالها للخارج تشكل جزءاً كبيراً من الفوائد التي يحصل عليها المستثمر الأجنبي.
- مثال: في دراسات حول “Profit Shifting” من شركات متعددة الجنسيات، تم تقدير أن بعض هذه الشركات تُحوّل أرباحها إلى دول ذات معدلات ضريبية منخفضة (Tax Havens)، مما يُقلّل ما يُدفع من ضرائب في الدول المضيفة ويُخفض صافي الفائدة الاقتصادية للدولة المضيفة.
- أيضًا، عندما يكون هناك إعفاءات ضريبية أو حوافز كبيرة للمستثمر الأجنبي، فإن البلد المضيف قد يدفع تكلفة هذه الحوافز (من الخزينة أو من الخدمات العامة) تُقابَل جزئياً من الضرائب التي لا تُحصّل أو تُحصّل بمعدلات منخفضة.
تحليل الموازنة: من أين غالبية الأموال؟

بناءً على البيانات والاتجاهات:
- الأموال الداخلة غالبًا ما تكون كبيرة، وتُمثّل دفعة أولية لتمويل المشاريع، بناء البُنى التحتية، توريد المعدات، الوظائف، إلخ. تكون هناك منافع اقتصادية غير مالية (نقل تكنولوجيا، مهارات، سلاسل توريد محلية).
- لكن الأموال الخارجة (الأرباح المحوَّلة، إعادة رأس المال في بعض الحالات، الفوائد على القروض أو العوائد على الأسهم) يمكن أن تكون ذات حجم كبير، خصوصًا بعد فترة من استقرار الاستثمار وتحقيق الأرباح، وقد تفوق الدخول من جديد في بعض الحالات، لا سيما إذا لم تُبنَ أي صناعات محلية قوية تحافظ على القيمة المضافة داخل البلد.
خلاصة منطقية
- في المدى القصير، غالبًا ما تدخل أموال أكثر مما يُخرج، لأن المستثمر يحتاج تمويل المشروع (المعدات، العقارات، العمالة، البنية التحتية) أولاً.
- في المدى المتوسط إلى الطويل، ومع استمرارية المشروع، تنشأ أرباح تُرسل للخارج، وقد تصبح الأموال الخارجة مساوية أو أكبر من جزء كبير من الأموال الداخلة، إذا لم يكن هناك تحويل نِسبي كبير من القيمة المضافة والمسؤولية المحلية.
- الفائدة الصافية لدولة ما تعتمد على السياسات التي تضعها: كيف تُشجع أن تظل القيمة، جزء كبير من سلسلة التوريد، المهارات، والضرائب داخل البلد بدلاً من أن تُستنزف للخارج.
خاتمة
الاستثمار الأجنبي ليس ربحًا صافيًا للدول ولا استنزافًا مطلقًا. إنه معادلة معقدة بين ما يدخل من أموال وما يخرج من أرباح. الفارق الحقيقي تحدده قدرة الدولة على إدارة هذه العلاقة: هل تكتفي بدور "سوق مستهلكة" وموفّرة للأيدي العاملة الرخيصة؟ أم تستغل الاستثمارات لتبني صناعة محلية مستقلة، تُحقق بها عوائد تبقى في الداخل وتكسر دورة الاعتماد على الخارج؟