
رغم أن اسم قتبان لا يُتداول بكثرة في الذاكرة الشعبية العربية، فإن آثارها ونقوشها تشير إلى مملكة ذات نظام إداري قوي، ولغة مكتوبة، واقتصاد مزدهر قائم على الزراعة وتصدير البخور والعطور النادرة. فكيف تشكلت هذه المملكة؟ وما دورها في رسم ملامح الصراعات اليمنية القديمة؟
الزراعة في قلب السلطة: الأرض والماء كأدوات حكم
على عكس بعض الممالك اليمنية التي قامت على أساس الهيمنة التجارية أو العسكرية، نشأت قتبان حول اقتصاد زراعي متين. سيطرت على مناطق واسعة من وادي بيحان، أحد أكثر الأودية خصوبة في اليمن، وطوّرت نظم ريّ معقدة سمحت لها بإنتاج محاصيل كالعنب والحنطة واللبان.
هذه السيطرة على الموارد جعلت من ملوك قتبان سادة الأرض والماء، ما منحهم شرعية دينية وقانونية أيضًا، حيث كان الملك يوصف بـ"مالك الحياة" بمعناها الزراعي. وتشير النقوش المسندية إلى قوانين صارمة لتنظيم مياه الري، وصون حقوق المزارعين، ما يعكس درجة عالية من التنظيم والتشريع.
مناجم الطيب وطريق البخور
اشتهرت قتبان بكونها إحدى نقاط الانطلاق الكبرى في طريق البخور، الذي امتد من حضرموت وبيحان حتى سواحل الشام وغزّة. كانت مملكة قتبان تتحكم في تصدير اللبان والمرّ والعطور إلى العالم القديم، وكان هذا الامتياز مصدرًا لثرائها ونفوذها الإقليمي.
وقد تنافست قتبان بشدة مع سبأ ومعين على هذا الطريق، فشهدت المنطقة تحالفات وخيانات وغزوات متبادلة، إذ لم يكن البخور مجرد سلعة، بل مصدرًا للقوة والنفوذ الديني والسياسي في العالم القديم، من معابد مصر إلى قصور روما.
النظام السياسي: ملكية متحركة بين القبائل
كان الحكم في قتبان في البداية بيد قبيلة واحدة، لكن مع توسّع المملكة، تطورت نحو نوع من الملكية القَبَلية التداولية، إذ تشير النقوش إلى مشاركة أكثر من قبيلة في اختيار الملك أو مشاركته في القرار. هذا النموذج قلّل من فرص الانقلابات، لكنه زاد من هشاشة النظام أمام التهديدات الخارجية.
وقد عُرف بعض ملوك قتبان بأسمائهم في النقوش، مثل الملك "يدع أب" و"يدع إل"، الذين سعوا لتوسيع المملكة عسكريًا، لكنهم أيضًا ركزوا على بناء المعابد وحماية نظم الري.
الصراع مع سبأ وسقوط المملكة
مثل معظم الممالك اليمنية، دخلت قتبان في صراعات مزمنة مع جيرانها، خصوصًا سبأ وحمير. وفي أواخر القرن الأول قبل الميلاد، ضعفت المملكة نتيجة الانقسامات الداخلية والضغوط الخارجية، إلى أن سقطت نهائيًا بيد الحميريين الذين دمجوا أراضيها ضمن سلطنتهم المتوسعة.
لكنّ إرث قتبان لم يُمحَ، إذ بقيت آثارها شاهدة على تطوّر نظام الري والزراعة في اليمن القديم، وعلى قوة المجتمعات الزراعية التي نافست الممالك التجارية والعسكرية.
خاتمة
لم تكن مملكة قتبان مجرد لاعب ثانوي في تاريخ اليمن القديم، بل كانت قلبًا نابضًا بالزراعة، وسوقًا حيويًا في تجارة الطيب، وكيانًا إداريًا متماسكًا مكّنها من الصمود قرونًا. واليوم، تُعيدنا دراسة قتبان إلى زمن كان فيه التحكم بالماء والزرع لا يقل شأنًا عن امتلاك الجيوش، وكانت رائحة العطر القادمة من الجنوب تصنع السياسة في الشمال.
وصف الصورة: أنقاض مدينة قديمة من الطوب والحجر في وادي بيحان، تحيط بها مزارع نخيل صغيرة، مع بقايا قناة ريّ حجرية، بينما تلوح خلفها الجبال الصحراوية في أفق غائم.
سلسلة: الممالك العربية القديمة