أفغانستان : ما سبب الصمود أمام غزو الإمبراطوريات الكبرى؟

رغم فقرها وبنيتها المتواضعة، صمدت أفغانستان أمام ثلاث من أعظم الإمبراطوريات الحديثة: بريطانيا العظمى، الاتحاد السوفيتي، ثم الولايات المتحدة. كيف يمكن لبلد منهك اقتصاديًا، ممزق قبليًا، غير مستقر سياسيًا، أن يُفشل ثلاث محاولات استعمار كبرى امتدت لقرنين؟ السؤال لا يتعلق بالقوة العسكرية فحسب، بل بطبيعة الأرض، وتركيبة الناس، وروح التاريخ المتجذرة في الذاكرة الجمعية لشعب يأبى الخضوع.

لننظر في أهم العوامل التي صنعت هذا الصمود النادر.


1. التضاريس الوعرة: الجغرافيا كدرع طبيعي

أفغانستان ليست ساحة قتال، بل متاهة جبلية. جبال هندوكوش والصخور الوعرة والممرات الضيقة جعلت من كل محاولة غزو كأنها انتحار لوجستي. لا يمكن لدبابة أن تنفع في طريق لا يتسع إلا لحمار، ولا لطائرة أن تحسم معركة في كهوف تتحرك فيها المقاومة كالأشباح.

هذا العامل الجغرافي لم يكن مجرد عائق، بل مصدّ دائم لأي محاولة احتلال شامل، مما اضطر القوى الغازية للاعتماد على "الحاميات" بدل السيطرة الفعلية، وهو ما كشف ظهرها للكمائن والانهيار من الداخل.


2. الطابع القبلي واللا مركزية السياسية

الشعوب التي تحتلها الإمبراطوريات عادة تسقط بسرعة لأنّ لها نقطة ارتكاز واحدة: زعيم، جيش، حكومة مركزية. أما أفغانستان، فهي مكوّنة من قبائل متعددة لا تخضع لسلطة موحدة.

هذا التشتت القبلي جعلها أشبه ببحر من النمل لا يمكن سحقه بضربة واحدة. كل قبيلة لها زعامتها، سلاحها، استقلالها. فإذا سقطت قبيلة، اشتعلت أخرى. هذا التفكك الذي قد يُعتبر ضعفًا إداريًا، صار في وجه الغزو قوة مقاومة لا تنضب.


3. العقيدة والروح الجهادية المتأصلة

في كل موجة غزو، كان الدافع العقائدي حاضرًا بقوة. منذ البريطانيين، كان الأفغان يقاتلون لا دفاعًا عن الأرض فقط، بل عن الدين، والهوية، والكرامة. هذا الإيمان الرسالي جعل المعركة تأخذ طابع "الجهاد ضد الكفار"، وهو ما يمنح القتال بُعدًا روحيًا يُحيي الناس عند الموت بدل أن يخيفهم.

في الغزو السوفيتي (1979-1989)، تحولت أفغانستان إلى بؤرة عالمية للجهاد، تدفّق إليها المجاهدون من مختلف البلدان، وشكّلت رمزًا إسلاميًا للصمود، بتواطؤ دولي (أميركي/سعودي/باكستاني) في البداية، ثم تُركت لتواجه مصيرها بعد سقوط الاتحاد السوفيتي.


4. التاريخ الحي في الذاكرة الجمعية

الأفغان لا يقرؤون التاريخ في الكتب، بل يحملونه في دمائهم. ذكرى هزيمة البريطانيين في القرن التاسع عشر، وهروب جندي واحد فقط من حملة قوامها آلاف، لا تزال تتداولها الألسن كقصة نصر وهويّة.

هذا الوعي بالتاريخ جعل الغزاة دومًا يبدون كـ"العدو التقليدي"، لا مجرد قوة سياسية. الاستعمار لديهم ليس حدثًا، بل سردية وجودية. لذلك لا يخضعون، ولا يتعبون من المقاومة، بل يرونها شرط وجودهم.


5. فشل الغزاة في تقديم مشروع مقنع

سواء البريطانيون، أو السوفييت، أو الأميركيون، حاولوا إدخال أفغانستان في مشاريعهم الحداثية أو الإيديولوجية (مدنية/شيوعية/ديمقراطية). لكنهم لم يفهموا البنية الثقافية العميقة للمجتمع، ولا منظومة القيم التي تحكم حياته.

كل مشروع غربي بدا كقناع لاحتلال ثقافي، فرفضه الأفغان سواء بالعنف أو بالمقاطعة. لم يُهزم الأميركيون فقط بالسلاح، بل بعدم قدرتهم على بناء دولة تابعة قابلة للاستمرار. في النهاية، بعد 20 سنة، سقطت الدولة التي صنعوها في 10 أيام.


خلاصة نقدية

الذي صمد في أفغانستان لم يكن جيشًا ولا دولة، بل الشخصية الجمعية لشعبٍ يعتبر الحرية قيمة أعلى من الحياة. لم يربحوا بالمعنى الاقتصادي أو العمراني، لكنهم أفشلوا كل المشاريع الإمبراطورية، وأسقطوا أسطورة التفوق العسكري الغربي.

ورغم ذلك، فإن أفغانستان لم تنجُ من الفقر والتخلف والمعاناة، مما يطرح سؤالًا آخر: هل يكفي إسقاط الغزاة؟ أم أن التحرر الحقيقي يبدأ بعدهم؟

وقد ظهرت مؤخرًا مؤشرات محدودة على محاولة حكومة طالبان التحول نحو البناء الداخلي بعد زوال الاحتلال المباشر، إذ أُتيحت لها فسحة نادرة لإعادة تشغيل بعض البنى الأساسية ومحاولة تثبيت سلطة خدمية بدل الاكتفاء بالخطاب الجهادي. إلا أن هذه الخطوات لا تزال في بداياتها، وتخضع لاختبار الزمن والعزلة الدولية.

أحدث أقدم
🏠