
لم تكن بداية الأتراك حضارية كبرى بالمعنى التقليدي، بل كانت بدايتهم قبائل رعوية متنقلة في سهوب آسيا الوسطى.
لكن هؤلاء البدو، الذين لم يعرفوا المدن إلا غزاةً، صاروا لاحقًا بناة إمبراطوريات، وورثة حضارات، وسادة العالم الإسلامي لقرون.
فما سرّ هذا التحوّل الجذري؟
وكيف حافظ الأتراك على وجودهم، رغم انهيار كل الكيانات التي أقاموها؟
دعنا نقرأ المسار التركي من الجذور إلى الدولة الحديثة:
1. الأصل في السهوب: من الغُزّ إلى السلاجقة
ينتمي الأتراك إلى الشعوب الطورانية أو التركية، التي نشأت في مناطق منغوليا وأواسط آسيا.
كانوا في الأصل شعوبًا بدوية محاربة، تعيش على الترحال والرعي، وتنقسم إلى قبائل مثل الغُزّ والقبجاق والخزر.
مع الوقت، وبتأثير الإسلام والاحتكاك بالخلافة العباسية، دخلت بعض هذه القبائل في الإسلام، وأبرزها الغُزّ، الذين أفرزوا لاحقًا السلاجقة، أول قوة تركية كبرى حكمت العالم الإسلامي.
السلاجقة لم يُنشئوا حضارة مستقلة، بل تبنوا التراث الإسلامي الفارسي العباسي، لكنهم كانوا العمود الفقري العسكري والسياسي له لقرون.
2. العثمانيون: القبيلة التي ابتلعت الإمبراطوريات
من إحدى قبائل الغُزّ، ظهرت في أواخر القرن 13 إمارة صغيرة بقيادة عثمان بن أرطغرل، على حدود العالم البيزنطي.
وخلال قرنين، تحولت هذه الإمارة إلى إمبراطورية عظيمة سيطرت على الأناضول، البلقان، الشام، مصر، شمال إفريقيا، العراق، والحجاز.
- سنة 1453، دخل محمد الفاتح القسطنطينية، منهياً الإمبراطورية الرومانية الشرقية.
- أصبح العثمانيون حماة الخلافة الإسلامية بعد القضاء على المماليك في مصر.
العثمانيون لم يكونوا مبدعين حضاريًا بقدر ما كانوا مديرين إمبراطوريين بارعين، جمعوا بين الإسلام، والبيروقراطية الفارسية، والنظام العسكري الصارم.
3. قرون الانحدار: الداخل ينهار والخارج يتقدم
ابتداءً من القرن 17، بدأت الدولة العثمانية تتآكل:
- تفكك داخلي، وصراع بين المركز والأطراف.
- جمود علمي وثقافي.
- غزو فكري واقتصادي من أوروبا الصاعدة.
ورغم محاولات التحديث في عهد التنظيمات (القرن 19)، بقيت الدولة ضعيفة أمام الضغوط الأوروبية المتزايدة، حتى سُميت بـ"الرجل المريض".
4. السقوط والصدمة: نهاية الخلافة
مع نهاية الحرب العالمية الأولى (1918)، انهارت الدولة العثمانية.
دُمّرت عاصمتها، واحتلت أراضيها، وقُسّمت أملاكها بين فرنسا وبريطانيا باتفاقيات سايكس بيكو.
وفي عام 1924، أعلن مصطفى كمال أتاتورك إلغاء الخلافة، وتأسيس الجمهورية التركية الحديثة على أنقاض السلطنة.
5. من الخلافة إلى القومية: الانقلاب على التاريخ
ما فعله أتاتورك لم يكن مجرد تأسيس دولة، بل قَطعًا عنيفًا مع الذاكرة:
- ألغى الحرف العربي، واستبدله باللاتيني.
- منع الرموز الإسلامية في الفضاء العام.
- فرض العلمانية، وأدخل تركيا في مشروع تغريب شامل.
وهكذا، تحوّلت الأمة التركية من وريثة الخلافة الإسلامية، إلى دولة قومية علمانية أوروبية الهوى.
لكن هذا الانقلاب، رغم نجاحه المؤسسي، لم يُنهِ الذاكرة العثمانية التي بقيت كامنة في المخيال التركي.
6. تركيا الحديثة: الذاكرة تعود على استحياء
منذ التسعينيات، بدأت الذاكرة الإسلامية/العثمانية تعود تدريجيًا إلى الواجهة، خاصة مع وصول حزب العدالة والتنمية بزعامة أردوغان.
شهدت تركيا:
- انتعاشًا اقتصاديًا نسبيًا.
- انفتاحًا دينيًا محدودًا.
- عودة الاهتمام بالماضي العثماني في الخطاب الثقافي والإعلامي.
لكن التوتر بين الهوية الإسلامية والعلمانية، والشرقية والغربية، والتركية والعثمانية، ما زال يحكم المشهد التركي حتى اليوم.
7. لماذا بقي الأتراك ولم يُمحَ ذكرهم؟
رغم انهيار كل إمبراطورياتهم، بقي الأتراك لأنهم:
- حوّلوا أنفسهم من قبائل إلى دولة قوية التنظيم.
- تبنّوا تراثًا دينيًا/حضاريًا قائمًا بدل تأسيس حضارة من العدم.
- حافظوا على هوية إثنية ولغوية قوية حتى في أحلك الأزمات.
- عادوا إلى قلب التاريخ بعد كل سقوط، إما بكيان جديد، أو برؤية جديدة.
خلاصة: شعبٌ بلا أصل حضاري قديم، صنع لنفسه مجدًا بالتبني والإتقان
الأتراك لم يكونوا بناة حضارة بالمعنى الفلسفي، بل مُتقنين للسيطرة والإدارة والنظام.
كانت قوتهم في قدرتهم على التكيّف، على تبني هوية الآخرين، ثم إعادة تصديرها بهويتهم الخاصة.
ومن الغُزّ الرحّل، إلى سلاطين إسطنبول، إلى علمانيي أنقرة، وصولًا إلى نَفَس عثماني حديث...
لا يزال هذا الشعب يعيد تعريف نفسه كلما سقط.