مكملة حضارات باقية: العرب: حضارة أمة ذات رسالة

العرب الأمة التي حملت النور الأول إلى العالم، والتي انطلقت من صحراء قاحلة لتبني أعظم حضارة عرفها التاريخ الوسيط.
لكن من هم العرب الذين نتحدث عنهم؟ أأولئك الذين تتنازعهم اليوم الحدود والرايات والأنظمة؟ أم أولئك الذين حملوا الرسالة، فبدّلتهم، وبدّلوا بها مسار التاريخ؟
العرب الذين صنعوا المجد، لم يصنعوه بعرقهم، ولا بقبائلهم، ولا بنسبهم، بل حين صاروا حملة رسالة، حاملي وحي، قادة مشروع روحي وفكري تحرّري وصاروا أمة ذات رسالة.

لقد دخلوا التاريخ لا حين تفرّقوا قبائل في جزيرة، بل حين انطلقت دعوتهم تحمل مبدأ: لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى.


لحظة التحوّل الكبرى

لقد كانت لحظة التحوّل الكبرى في تاريخ العرب، هي لحظة الوحي.
في تلك اللحظة الفاصلة، تحوّل شعبٌ كان منسيًّا على أطراف الإمبراطوريات الكبرى إلى قاطرة حضارية أممية، تنادي بالعدالة، وتحرير الإنسان، وكرامة العقل.
حينها أصبح العربي لسانًا لفكرة، لا عنوانًا لعرق.
وبهذا المعنى، لم تكن "الحضارة العربية الإسلامية" حضارة قوم، بل حضارة مبدأ نطق بالعربية، وقادها العرب في مرحلتها الأولى، ثم انضم إليها الفرس والبربر والترك والسند، في مشروعٍ لم يعرف له التاريخ نظيرًا.

العرب لم يكونوا مجرد مؤسّسي حضارة، بل المحرّك الأول لولادة أمة جديدة.
أمة لم تُبنَ على الدم أو الأرض، بل على المعنى، والرباط العقدي، وعلى كلمةٍ واحدة: لا إله إلا الله.
كانوا الأوائل في حملها، وبهم انتقلت الرسالة من الوحي إلى الواقع.

لقد تميّز العرب بلسانٍ تحوّل إلى لسان أمّة،
وبعقلٍ لما تحرّر من العصبية، صار مدرسة فقه، ومنارة لغة، ومهد فلسفة.
ومن صحراء الجزيرة خرجت مدن الفكر الكبرى: بغداد، ودمشق، والقيروان، والأندلس...
لا لأنها كانت عربية فقط، بل لأنها كانت عربية بروح الإسلام، لا بعصبية النسب.


تحول الرسالة إلى إرث سياسي

لكن حين تحوّلت الرسالة إلى إرث سياسي،
وحين تراجع المشروع الأخلاقي لصالح السطوة القبلية،
وحين انقلبت الأمة إلى دويلات، والرسالة إلى سلطات،
بدأ الانحدار.

واليوم، حين نتأمل واقع العرب، فإننا لا نرى ضعف العرب كقومية، بل نرى انفصالهم عن رسالتهم.
فالمشكلة لم تكن يومًا في العرق، ولا في اللغة، بل في أن العرب حين تخلّوا عن دورهم كحملة مشروع، ضاع منهم الوعي والدور والمكانة.

ولهذا، لا يجوز أن نقيس العرب اليوم على واقعهم السياسي الممزق فقط،
بل يجب أن نتذكّر: أن هذا الشعب، حين استقام على الرسالة، صنع ما لم تصنعه أمم أقدم وأكثر عددًا.
وأنّ الإسلام لم يأتِ ليذيب العروبة، بل ليطهّرها من الجاهلية، ويجعلها وعاءً نقيًا لقيم الخلاص.

ومَن أراد فهم العرب، لا بد أن يقرأهم في هذا السياق:
كأمةٍ تحرّرت بالإسلام، وأعتقت غيرها، ثم حين نكصت عنه، أُعيدت إلى عبودية الفرقة والاستضعاف.


هل لازال هناك أمل

فهل ما زال في هذا الشعب من يسمع النداء؟
هل يُمكن أن يعود العرب قادة مشروعٍ حضاري عالمي، لا لأنهم عرب، بل لأنهم حملة مبدأ؟
لأنهم حين يحملونه... لا يعودون "قومًا" فقط، بل أمةً شاهدة على الناس.


سلسلة: الحضارات الباقية: كيف تدفن الشعوب في التاريخ وتنجو الافكار

+
أحدث أقدم

ويجيد بعد المقال


تنويه: هذا المقال (أو المحتوى) يقدم تحليلاً إعلامياً موضوعياً، ويخلو تماماً من أي تحريض أو دعوة للعنف، ويعكس رؤية نقدية متوازنة للأحداث، مع الالتزام التام بالأطر القانونية والمعايير المهنية.